إن الأزمة الحكومية التي يمر بها لبنان حالياً، تعتبر الأخطر في تاريخ لبنان السياسي، ومرد ذلك الى ممارسات غير دستورية تقوم بها الرئاسة الأولى، من طريقة تعاطي بعيدة كل البعد عن الأصول الدستورية والقانونية التي تفترض التعاطي بين الرئاسة الأولى والثالثة، وكان من نتيجة تلك الأزمة المتشعبة أن تعالت الأصوات والدعوات المطالبة بإستقالة رئيس الجمهورية .
ولعلّ المطالبة بإستقالة رئيس الجمهورية قد تلازمت مع كافة العهود الرئاسية منذ الإستقلال حتى تاريخه، ففي عهد الإستقلال الأول، تم تمديد ولاية الرئيس بشارة الخوري لأربع سنوات، وقد تميّزت ولايته بوجود شقيقه النائب سليم الخوري، الذي طبع ولاية شقيقه بطابع خاص، وسميّت الولاية الممددة بِعهد السلطان سليم، وتشكلّت جبهة معارضة وطنية لحكم الرئيس الخوري، أجبرته على الإستقالة بعد أزمة خطيرة هي الأولى منذ إعلان الإستقلال .
تبوّأ الرئيس كميل شمعون الحكم خلفاً للرئيس بشارة الخوري، وتميّز عهده بإنجازات إعمارية وإقتصادية ومالية، لكن في السياسة حصل خلاف حاد بين الرئيس شمعون وحلفائه في الجبهة الإشتراكية، تنديداً بسياسة شمعون الداخلية وإستئثاره بالسلطة منفرداً، أما الأبرز فكان الخلاف حول سياسة الأحلاف التي قادت الى حرب أهلية مصغرة في العام 1958، حيث كانت مطالبات المعارضة بإستقالة الرئيس شمعون المطلب الأساس لتلك القوى، لينتهي عهد الرئيس شمعون إثر تدخل أمريكي عسكري وبعد حصول تسوية أمريكية – مصرية دون إستقالة شمعون .
بعد أحداث العام 1958، وصل قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب الى سدّة الرئاسة، ويبقى عهده الأبرز لناحية الإنجازات، وقد يكون هو الوحيد بين رؤساء الجمهورية الذي بادر الى الإستقالة، لكنها رُفضت بإجماع نيابي -شعبي في ظاهرة فريدة من نوعها، رغم ذلك فقد كان للعهد الشهابي الأول معارضة، محورها سياسة المكتب الثاني خاصة في الثلاث سنوات الأخيرة من عهد شهاب .
تعتبر ولاية الرئيس شارل الحلو هي الولاية الشهابية الثانية، وقد كان حلو حريصاً على البقاء على النهج الشهابي حتى منتصف عهده، لكن الأمور إختلفت بعد نكسة 5 حزيران عام 1967، حيث بدأ الحلو بالعمل على تقويض عمل المكتب الثاني بصفته من دعائم النهج الشهابي، إلا أن ولاية الرئيس حلو شهدت أزمات كبرى من أزمة بنك إنترا في العام 1966 و نكسة العام 1967 وإنتخابات العام 1968 التي أدت الى فوز الحلف الثلاثي و الغارة الإسرائيلية على مطار بيروت في 28 كانون الأول عام 1968، هذه الأمور مجتمعة أدت لسقوط الشهابية، خاصة مع المعارضة القوية من جانب الرئيس صائب سلام .
مع سقوط الشهابية في إنتخابات الرئاسة عام 1970، وصل الى سدة الحكم الرئيس سليمان فرنجية في إنتخابات رئاسية تعتبر الأفضل في تاريخ إنتخابات الرئاسة اللبنانية، وشهد عهده إندلاع الحرب الأهلية، وبدأت تتعالى الأصوات المطالبة بإستقالة الرئيس، وقد قال كمال جنبلاط ما حرفيته : «لن ينتهي الوضع المتدهور إلا بمجيء رئيس جديد للجمهورية» وكان التحرك الدولي باعثاً على الإسراع في إنتخاب رئيس جديد للجمهورية .
تم إنتخاب إلياس سركيس رئيساً للجمهورية في 8 أيار من العام 1970، على وقع الحرب الأهلية والدخول العسكري لقوات الردع العربية الى لبنان، وفي أطول عملية إنتخاب حيث دامت لحوالي الست ساعات، وقبل ستة أشهر من نهاية ولاية الرئيس سليمان فرنجية، وقد تولّى الرئاسة في أصعب الظروف التي رافقت نهاية حرب السنتين، وإشتدت في عهده الحرب وإستعرّت، وفي العام 1978، لوّح سركيس بالإستقالة ولزم جناحه الخاص في القصر الجمهوري، وتوالت التدخلات لحمله على العودة عن إستقالته، لكنه بقي مصرّاً عليها، وفي ليل 8 تموز من العام 1978 كتب نص إستقالته بخطه ولكنه لم ينشرها، وعاد بعد أسبوع عن إستقالته موجهاً رسالة الى اللبنانيين، لكن عهده إنتهى مع إحتلال إسرائيل لبيروت في العام 1982 .
شهد العام 1982 إنتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية، لكنه إغتيل بعد ثلاثة وعشرين يوماً من إنتخابه ليخلفه شقيقه أمين الذي إنتخب رئيساً للجمهورية وسط دمار يلف كافة أرجاء البلاد وشهد عهده توقيع إتفاق 17 ايار ثم التراجع عنه فضلاً عن إنتفاضة 6 شباط، كما مؤتمرات الحوار الوطني في جنيف ولوزان، وكان المطالبة بإستقالة الجميل دائمة على جدول الأعمال، إلا أنه تم التراجع عن المطالبة بإستقالته في مؤتمر لوزان، حيث تشكلت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الرئيس رشيد كرامي .
بإنتهاء عهده في العام 1988 دون إنتخاب خلف له، كَلّف الجميل قائد الجيش العماد ميشال عون تشكيل حكومة عسكرية، لكن المسلمين رفضوا أن يتمثلوا بها، وتمسكوا بحكومة الرئيس سليم الحص، ليقع لبنان في ظل حكومتين، واستمر الإنقسام الذي تخلّله توقيع إتفاق الطائف، وبعد اجتياح العراق للكويت في العام 1990، فوّض الأمريكيون القوات السورية بدخول القصر الجمهوري وإنهاء الإنقسام الحاصل .
بعد توقيع إتفاق الطائف، تم إنتخاب رينيه معوض لرئاسة الجمهورية، لكنه إغتيل يوم عيد الإستقلال، ليخلفه إلياس الهراوي في سدة الرئاسة، حيث تم ّفي عهده إنهاء مفاعيل الحرب الأهلية، كما تمّ نفي العماد عون الى فرنسا وسَجْن الدكتور سمير جعجع .
خَلَفَ قائد الجيش إميل لحود الرئيس إلياس الهراوي في سدة الرئاسة، كما تم تمديد ولايته التي شهدت نشوء جبهة معارضة واسعة ضد تمديد حكمه، وفي العام 2005 تم إغتيال الرئيس رفيق الحريري، لتخرج تحركات شعبية هي الأكبر في تاريخ البلاد، مطالبة بالقصاص من قتلة الحريري والإنسحاب السوري وإستقالة لحود، لكن المطالبة بإستقالة لحود قوبلت برفض إسقاطه في الشارع من قبل المرجعية الدينية .
أما ما نشهده حالياً من مطالبات بإستقالة الرئيس، فهي متزامنة مع أقسى أزمة إقتصادية، مالية وإجتماعية يمرّ بها لبنان، كما ارتبطت بثالث أكبر إنفجار في تاريخ البشرية الذي دمّر نصف مدينة بيروت، مع أزمة حكومية مرتبطة بهرطقات غير دستورية .