أحزان جليلة تقاسمها اللبنانيون. لم يتركوا عائلات الرهائن وحيدة. تشهد دموع الحزن ودموع الفرح، أن اللبنانيين لم يفرِّطوا بإنسانيتهم. ما كانوا، في هذه المحنة، أحزاباً وتيارات ومذاهب. تحكَّمت بهم مشاعرهم النبيلة، وتناسوا أنهم أبناء اصطفافات مكبَّلة بالمواقف المسبقة. نبيلاً كان الدمع اللبناني، عسى ألا يكون ذلك صدفة، أو مناسبة بلا أثر بعدها. عسى أن تؤسس لتراث.
أما بعد…
في الطريق إلى الرئاسة كلام مختلف. الإعلان عن مشروع رئيس جديد للجمهورية، كسر رتابة الأيام وحذف ما كان يُقال، ونقل الكلام من الفراغ المستدام، والحكومة المعطوبة والمجلس المكبَّل والمقاطعة المتبادلة، إلى سياسة من نوع مختلف، يرتطم فيها حلف «8 آذار» بنفسه، ويرتطم «14 آذار» بمكوّناته. خرجت من هذين الحصنين المنيعين، بادرة رئاسة، بترشيح سليمان فرنجية، حليف عون أولاً، وحليف «حزب الله» دائماً، وحليف الأسد أبداً، من قبل سعد الحريري، خصم عون دائماً، ومعادٍ للأسد كلما سنحت السياسة، ومضادّ لـ «حزب الله» بالمراس اليومي… خرق جديد، وغير مسبوق، فانقلبت الأدوار وتبدَّلت لغة التخاطب بين الأضداد، وبرزت نتوءات حادة بين الحلفاء. فلا «14 آذار» على حالها، ورئيسها رأس حربة الترشيح، بدعم أميركي مستتر ودعامة سعودية معلنة، ولا «8 آذار» على حالها، ومرشحها العماد ميشال عون، بات مضطراً لأن يصوغ وصفاً جديداً لموقعه، من خلال انفراط من حوله، «مردة» و «أملاً» ورسو «البوانتاج» الانتخابي، إذا تأمن النصاب، على فوز مرجح لسليمان فرنجية، الحليف المضاد.
انقلاب حقيقي. تخلخلت التحالفات وتصدّعت الاصطفافات. لن تتغيّر قناعات سليمان فرنجية ومواقفه. معروف عنه الثبات. ولن تتبدّل قناعات سعد الحريري ومواقفه. سيبقى كل على قناعاته، وهذا لا يمنع الالتقاء بينهما في ما بعد، على تكوين سلطة جديدة، تنحّي الخلافات جانباً وتركّز على التفاهمات والتسويات، لتسيير عجلة الدولة، بالتي هي أحسن أو بالتي هي أسوأ، سيّان… هذا هو تاريخ لبنان. الخلافات على السياسة الخارجية، سيحكمها منطق «النأي بالنفس»، غير الإلزامي، لمكوّنات السلطة… السلطة تنأى، والمكوّنات تشتبك. حيلة أبدعها اللبنانيون، وهي قابلة للحياة، لتجنيب لبنان أي اشتباك عنفي فوق أرضه.
الجنرال، قائد المعارك الخاسرة، قد تكون هذه آخر خساراته المدوّية. هو المرشح الأقوى، وله حليف (حزب الله) هو الأقوى، ومع ذلك، هو في قارة وبعبدا في قارة أخرى. الصيغة التي ابتدعها السيد حسن نصرالله مفيدة، مع بعض التعديل: عون ممر إلزامي للرئاسة. لم يعد كذلك، فليس هو صانع الرئيس، إن لم يكن هو الرئيس. تسمية فرنجية جاءت من خصمه الذي وعده وما وفى. «الفيتو» السعودي أقوى من وعد الحريري. تسمية فرنجية جاءت من خصوم عون: السعودية، الحريري، وقبول من جنبلاط وبري…
على أن أمام عون فرصة أخرى، قد تكون أهم من تولّيه الرئاسة، وهي في أن يكون الممر الإلزامي للحكم: أي حكم، بأية حكومة، وفي أي ظرف. وهو يمتلك هذه الفرصة. إذا أجاد التفاوض على السلطة وبرنامجها.
عون مرشح قوي بشعبيته. صح. هو رئيس قوي. صح. ولكن ليس لشعبيته، بل بما يجعله أكثر من رئيس بلا صلاحيات، غير صلاحية التوقيع الإلزامي على المراسيم. إنه قوي من خلال كتلة نيابية وازنة، وقبضة وزارية صلبة… الرئيس ميشال سليمان، كان من الوزن الخفيف جداً. استأجروا له وزراء، ومنهم «وزير ملك»، لم يكن له… كان حاكماً لا يحكم… عون، ليس قوياً بشخصه، بل بحضوره النيابي الوازن وثقله الوزاري القادر على تعطيل الحكم وإقفال مجلس الوزراء… ميشال سليمان ليس من هذا الوزن أبداً. وفرنجية، لن يكون بهذا الثقل. كتلته معدودة وحجمه التمثيلي خفيف.
إذا اقتنع ميشال عون بأنه قادر على أن يكون ممراً إلزامياً للحكم، من خارج رئاسة الجمهورية، فإنه يستطيع أن يُلزم الرئيس الجديد، ببرنامج إصلاحي، ليس من خلال العناوين الوزارية، بل من خلال الالتزام بآليات تنفيذية، تنفض دولة الفساد، عبر تجديد تامّ، للمؤسسات الرقابية، وعبر تقليم أظافر السياسيين في القضاء، وتطهيره من الفاسدين والمفسدين، وعبر إيلاء الوزارات لإدارات جديدة، غير خاضعة للمحاصصة المذهبية والطائفية، بل مخضَّعة أولاً، للكفاءة والنزاهة والاستقلالية… يستطيع الجنرال أن يقول لفرنجية، «أنا معك إن كنتَ معي». ومعنى ذلك، أن يكون خطابُ القسم على هذه العناوين، وأن يكون البيان الوزاري على الآليات اللازمة، وفق روزنامة زمنية، تنقل السلطة في لبنان، من موضع الشك والاتهام والإفلاس الأخلاقي، إلى موقع المسؤولية والشفافية واحترام القوانين.
بهذا الطرح، ينتقل النقاش من الشخص إلى النصّ، بحيث يُسأل فرنجية: لماذا أنت رئيس؟ أي دولة ستكون أنت رأسَها؟ هذه الدولة الفاسدة أم مشروع الدولة العادلة؟ بهذا المعنى، يتلبنن الانتخاب، وتكون للجنرال حصة الفائز بالحكم، ولو كان خارج بعبدا.
على مَن تقرأ مزاميرك يا داود؟ ألا تعرف الجنرال؟ ألم تتعلّم أن «هيدا لبنان»؟ ألم تيأس بعد؟