هل فخامة رئيس الجمهورية في صحّة جيدة؟ هل هو في المستشفى؟ هل كان في المستشفى وخرج؟ ماذا عن صحة دولة رئيس المجلس النيابي؟ هل صحيح أنه خضع الى عملية جراحية؟ أخبارٌ تجتاح مواقع التواصل الإجتماعي، تتبناها أحياناً وسائل الإعلام الى أن يعود مكتب رئاسة الجمهورية أو مكتب رئاسة مجلس النواب أو القصر الجمهوري أو مكتب حركة أمل الإعلامي الى النفي والجزم من أجل الحسم: أن صحة فخامته أو دولته بخير. فهل حقيقة صحة الرؤساء في بلادنا أيضاً نقطة حمراء ونقطة على السطر؟
لا شيء في القوانين اللبنانية يوصي بمعرفة أحوال الرؤساء الصحية لا قبل انتخابهم ولا بالطبع بعدها. فكما كل شيء في البلاد هناك ضبابية حول “صحة الرؤساء” التي يفترض أن تبقى سرّاً من أسرار الدولة لا تُكشف تحت أي حجة. والدخول الى المستشفى، كما الخروج منه، أمر يتعلّق بالخصوصية ويفترض أن يبقى خاصاً ما دام في نبض الرؤساء حياة.
“الله يطول بعمرن” ولكن، هل حجج مكاتب الرئاسات محقة في إخفاء صحة الرؤساء؟ وهل هؤلاء في صحة “بومبا”؟ وهل الأخلاقيات الطبية، أو ما يفترض أن تكون أخلاقيات طبية، تتوقف عند ضرورة عدم الغمز من قنوات صحة الرؤساء؟
ميشال عون (مواليد 1935) ونبيه بري (مواليد 1939) بصحة جيدة. وماذا بعد؟
هنا، في لبنان، يُمنع قانونياً على من تجاوزوا سناً معيناً التوقيع على مستند يجيز لهم نقل الممتلكات أو إقرار مصير “ورقة قانونية” إلا بعد كشف طبيب شرعي عليهم. فالكل، من كل الأعمار، معرضون الى مشاكل صحية، لكن كلما تقدم العمر أكثر أصبحت هذه المشاكل أكبر.
في الأيام الأخيرة، برز مجدداً السؤال حول صحة رئيس الجمهورية ميشال عون ونقله الى مستشفى أوتيل ديو بعد تدهور حالته الصحية. هناك من حزنوا وهناك من فرحوا. وبقي السؤال، على الرغم من نفي رئاسة الجمهورية ذلك: هل فخامته لم يذهب ولم يعد الى المستشفى؟ سؤالٌ ثان طُرح: هل يحق للشعب اللبناني الحصول على المعلومة الحقيقية في حال أصيب رئيس البلاد بعارض صحي؟
قانونياً، بحسب المحامي ميشال فلاح “هناك السرية المهنية ويتحمل الطبيب مسؤولية الحفاظ على المعلومات وعدم إفشائها. في المقابل، أي شخص يتبوأ المسؤولية القانونية ليس هناك أي شرط واضح على وجوب مساءلته استناداً الى ظروفه الصحية. لكن تبقى هناك مساءلة وطنية من المسؤول نفسه تجاه شعبه أن يكون واضحاً وصريحاً. هذا واجب معنوي وأخلاقي يعود الى كل مسؤول القيام به”.
يكبر الإنسان فترتفع نسبة الأخطار التي تحدق في صحته. ألا تتذكرون كم مرة قيل: ماتت صباح؟ ألا تتذكرون كم مرة قتلوها؟ مع فارق طبعاً أن مصير البلاد لم يكن مرتبطاً بالشحرورة.
في كل حال، درجت العادة أن يطلب كتّاب العدول من المواطن اللبناني العادي، إذا تجاوز سن السبعين، تقريراً من الطبيب الشرعي لا تتجاوز مدته 24 ساعة يتيح له إجراء عمل قانوني ما ويقول فلاح: “هذا ما ادرجته العادة او التقليد وليس القانون وذلك لحماية كتّاب العدول وليس العمل القانوني، في حال تمّ الطعن بعقد ما تجنباً لاستدعاء كاتب العدل امام المحاكم للقول مسبقاً أن الشخص، إبن السبعين وما فوق، كان يتمتع، لحظة قيامه بالعمل القانوني، بالأهلية القانونية اللازمة التي تجيز له القيام بهذا العمل”. فهل “المسؤول” عصي على العادات؟
لنوغل أكثر في الضرورات والمحرمات حول أسلوب التعاطي عادة، في أقطار العالم، مع صحة الرؤساء، خصوصاً إذا كانوا قد تجاوزوا عمراً معيناً وباتوا يصنفون في المفهوم الطبي: كهولاً.
الرؤساء، في مختلف أنحاء العالم، يحاولون الظهور “أقوياء” أمام شعوبهم وأمام العالم. فالصحة “المتعلسة” (حسب القول الشعبي اللبناني) تعني بالنسبة الى الكثيرين الخسارة. “فها هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يصغي الى الإعلام الفرنسي يتحدث عن صحته، بعد إصابته بفيروس كورونا، والتحاليل حول قدرته على الحكم والإدارة في هذه الأوقات الصعبة. وهو اضطر أن يطلّ على الملأ ليقول: أنا بخير”. ويستطرد المحامي ميشال فلاح بالقول: “ها هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضاً يبدو حريصاً على إظهار صوره وهو يركب الأحصنة ويمارس رياضات التزلج ويصطاد الدببة ويلعب رياضة الهوكي القاسية ليبدو قوياً وبصحة ممتازة. هو يوجه رسائل الى الداخل الروسي والى الخارج عبر صور تدل الى أنه بصحة “فوق العادة”. هاجس رؤساء الدول مع “صحتهم” موجود دائماً عند الجميع بلا استثناء.
المناظرات الرئاسية الأميركية هي أيضاً ساحة دائمة للتشكيك وتبادل الإتهامات حول صحة الرئيس الأميركي العتيد الآتي على حصان أبيض. في العام 1960 قرر الناخبون الأميركيون التصويت لجون كينيدي لأن ريتشارد نيكسون كان مريضاً ومنهكاً بعدما خرج من المستشفى قبل أسبوعين فقط من موعد المناظرة. الرئيس دونالد ترامب خرج بدوره بعد أيام قليلة من إصابته بكوفيد 19 ليقول: “أنا القوي وأريد أن أقبّل النساء الجميلات”. الأميركيون عموماً، مثلنا، يشعرون بالفضول لاكتشاف صحة رؤسائهم وأي إشارة الى مرض أو ضعف تخضع الى كثير من التدقيق العام والمكثف. ونحن، مثل الأميركيين أيضاً، حين رأينا الشيخ سعد الحريري، رئيس الحكومة المكلف، قد خسر وزناً كثيراً سألنا بعضنا بعضاً: تُرى هل يشكو من شيء؟ هل هو مريض أو “على الموضة”؟ مع فارق أننا نسأل ونمضي الى ملف آخر وسؤال آخر وهواجس أخرى، أما الأميركيون فيقفون ويكررون السؤال الى حين يحصلون على جواب.
ليست هناك، في الولايات المتحدة، قوانين تفرض على الرئيس إبلاغ الجمهور بصحته لكن كثيراً من الرؤساء الذين مروا على البيت الأبيض كانوا منفتحين تجاه هذه المسألة. فباراك اوباما وجورج دبليو بوش كانا يكشفان التقارير الطبية المفصلة حين يخضعان الى فحوصات دم أو صور شعاعية. من جهته، لم يتمثّل ترامب، وهو أكبر رئيس أميركي يؤدي اليمين الدستورية، بأوباما وبوش واكتفى طوال رئاسته بترداد “أنا بصحة جيدة”، لكن الناخبين كانوا يشككون بذلك بسبب زيارات متكررة، غير مبررة، كان يقوم بها الى مستشفى في واشنطن. وبسبب ولعه “بالفاست فود”. من جهته، الرئيس الأميركي الثامن والعشرون، وودرو ويلسون عانى من سكتة دماغية أثناء حملته الإنتخابية وزوجته، طبيبة البيت الأبيض، حجبت خطورة حالته. فرانكلين روزفلت كان مصاباً أيضاً بشلل الأطفال لكنه كان حريصاً على إظهار نفسه في صورة الرئيس النشيط المتعافي. وحين أصيب دوايت أيزنهاور بنوبة قلبية عام 1955 قيل في البيت الأبيض إنه يعاني من مجرد اضطراب في الجهاز الهضمي. هؤلاء جميعاً وثقوا أن المرض والسلطة ضدان.
بلادنا العربية أكثر تشدداً لهذه الناحية. فها هي صحة رؤساء الجزائر “سرية” في المطلق، وعبثاً يحاول الشارع الجزائري اكتشاف الخيط الأبيض من الخيط الأسود حول صحة “الرئيس”. فهذا الموضوع جد حساس. فهل تتذكرون الرئيس عبد العزيز بوتفليقة (مواليد 1937)؟ هو تعرض في العام 2013 الى وعكة صحية غيّبته عن الصورة طوال سنوات ولم يجرؤ أحد التكلم عنها. والأنكى أنه سعى عام 2019 الى الترشح الى ولاية خامسة لكن الشعب انتفض عليه بسبب حالته الصحية التي تمنعه حتى من الكلام.
نعود الى لبنان، حيث لم ينس كثيرون بعد كل الكلام الذي كان يصدر في حقّ بطريرك الإستقلال الكاردينال مارنصرالله بطرس صفير، في تسعينات القرن الماضي، بأنه طعن في السنّ، وهو لم يكن قد بلغ بعد سن السبعين. وهو من القلائل الذين قرروا بعد تقدمهم في العمر الإستقالة من مهامه. في هذا الإطار يقول المحامي فلاح “اعتبر البطريرك صفير أن عليه مسؤولية تجاه الآخرين، مسؤولية روحية تجاه الرعية، فتنحى عن سدة البطريركية المارونية. المطران جورج خضر مثال آخر، فحين بانت شكوك حول قدراته الذهنية كان قرار تنحيه وانتخاب خلف له في جلسة مخصصة لانتخاب أكثر من مطران. نذكر هنا أن هذا المطران الذي لا يتكرر هو صاحب مقولتي: لبنان لم يُكتب له أن يموت ولا أن يعيش” و”لا يقوم لبنان بلا حكم صالح”.
“كما حنا كما حنين”. هو مثلٌ شائع. فالحكام يقال على مثال شعوبهم. غير أن الشعوب لا تعترف بهذه المقولة لأن ثلاثة أرباع من يحكمون بلاد العالم الثالث بالتحديد يظنون أنهم باتوا حكاماً عليها الى الأبد. في هذا الإطار نتذكر كلام أوباما حين سُئل عن الرؤساء الذين التقاهم فأجاب: “لدي انطباع اعتدت عليه لاحقاً في تعاملي مع حكام استبداديين متقدمين في السن، أغلقوا أنفسهم في قصورهم ويديرون أمورهم عبر خدام متجهمين يحيطون بهم، وما عادوا يميزون بين مصالحهم الشخصية ومصالح دولهم”. الرؤساء يتسلون بشعوبهم والشعوب تتسلى بتحليل وتخمين مصائر رؤسائها. والأمثلة الكثيرة بيّنت أن لا أحد فوق رأسه خيمة لا الكبير ولا الصغير، لا الفقير ولا الغني، لا الرئيس ولا “العبد المأمور”، لا في أميركا ولا طبعاً في لبنان. لكن الصحة الى الجميع سلطة والمرض ضعف. فلا تسألوا بعد اليوم رئيساً: كيف صحتك؟