أميركا التي نظرنا اليها دائما كعامل استقرار واستمرارية وضمان للنظام العالمي الليبرالي يمكن ان تصبح، وفي عهد رئاسة دونالد ترامب من أشد المعطلين لهذا النظام العالمي على الأقل اذا ما أبقى ترامب على تهديداته. لذلك قد يكون السؤال الاهم حاليًا هو: ما الذي يمكن ان نتوقعه في الأشهر والسنوات المقبلة؟
مع تسلّم ترامب سدة الرئاسة في اكبر دولة في العالم، وبدعم قوي وموحّد من الكونغرس خلفه، سيكون قادرًا على اجراء تغييرات مفصلية في اميركا وفي العالم اجمع.
وقد تكون هذه التغييرات وانعكاساتها قوية على النظام العالمي واقتصاده سيما وانه لغاية الآن الكل متشائم ممّا ينتظر الاسواق والمعاهدات ونتائج المؤتمرات وغيرها من الامور والتي بدت لترامب وكأنها غير كافية ومخالفة لما يعتقده.
ورغم ان المستقبل غير واضح الرؤيا الا انه من المحتمل ان يكون لانتخابه اثارا خطيرة على الحلفاء والاعداء على حد سواء وفقًا لتقرير مركز ابحاث بريطاني (Chatham House) .
من جهته، أخذ صندوق النقد الدولي موقفًا حذرًا تجاه سياسات الرئيس الاميركي الجديد مفترضًا دفعة متواضعة للاقتصاد الاميركي بسبب وعوده عن الحوافز الضريبية تاركين الباب مفتوحًا امام التأثير على الاقتصاد طالما ان الكونغرس والرئيس يسيطران على السياسة الضريبية بينما الفدرالي يسيطر على السياسة المالية وتضاربهما قد يكون له تأثير سلبي على الاقتصاد الاميركي ككل.
ومن المعلوم أن السياسة الضريبية تعني الضرائب والانفاق والموازنة بينما السياسة المالية تعني الفوائد والتيسير الكمي وغيره وفوائد ضعيفة تعتبر حافزًا للاقتصاد بين عجز قليل وارتفاع اسعار الفوائد تعتبر انكماشًا للاقتصاد. ومن بين المسائل الرئيسية التي يركّز عليها ترامب يبقى الاصلاح الضريبي والاصلاح التنظيمي والاستثمار في البنية التحتية هي الاهم وتمثل اهم العوامل المؤثرة في المدى الطويل.
اضف الى ذلك الامور التي قد تشكل خطرا كبيرا للاقتصاد الاميركي سيما اذا ما احتفظ دونالد ترامب بوعوده الحمائية والالتزام بتعهداته من ناحية اجراء تغييرات جذرية في سياسة الهجرة والتجارة والتهديد بفرض رسوم جمركية مرتفعة على واردات وصادرات الصين- وفي استطلاع لرويترز اجرته الاسبوع الماضي اكثر من ثلثي الذين اجابوا في استطلاع الرأي ان السياسات الحمائية لترامب هي اكبر تهديد للاقتصاد العالمي. اضف الى ذلك دور مجلس الاحتياطي الفدرالي في الاقتصاد والذي يمكن ان يتعرض في حد ذاته للخطر.
وقد اعرب ترامب عن عدم رضاه وانتقد علنًا خيارات السياسات النقدية للسيدة يلين وسوف تتاح له الفرصة لشغل المقاعد في مجلس الاحتياطي مع ما يترتب على ذلك من تبعات مما يعني ان الاقتصاد قد يسير في توجهات قد تكون خطرة على المؤشرات والاسواق والدولار الاميركي وغيره.
في الواقع، بشّر انتخاب ترامب بقدوم نظام عالمي جديد ولكن الصورة ليست كما يراها البعض فالغرب اكثر ضعفًا من اي وقت مضى والقومية الاميركية الصاعدة تشكل تهديدًا واضحًا لاقتصاد المانيا وللاتحاد الاوروبي. والمضحك في كل هذا ان رئيسا جديدا دخل البيت الابيض وليس له اي فكرة عن الاتحاد الاوروبي واشخاصه ومن يديره ومن هو صاحب الكلمة الاخيرة في بروكسل.
وللواقع هذا ليس بالشيء الجديد وعند سؤاله عن الاتحاد الاوروبي قال وزير الخارجية الاميركي الاسبق هنري كيسنجر ببراعة متسائلًا: «من الذي يجيب على الاتصال اذا ما اردت ان اكلم الاتحاد الاوروبي».
ويبدو ان ذلك ينطبق على ترامب الذي ليس له اي علم عمن تحدث اليه لعشرة دقائق وهنأه؛ اهو جان كلود جونكر ام دونالد تاسك، اضف الى ذلك قوله انه يفضل التفاوض مع كل بلد على حدة معتبرا ان ذلك سوف يكون اكثر فائدة.
هكذا نرى انه وبعد ٦٠ عامًا من محاولات اميركية لتعزيز الوحدة الاوروبية ان كان من خلال خطة مارشال وتأييدها للسوق الاوروبية المشتركة نواجه الآن رئيسا أميركيا يعتمد على تفكك الاتحاد الاوروبي. ومفاهيم العالم الحر من حقوق الانسان وحماية الاقليات لا تشكل جزءًا من مفرداته وهدفه الوحيد هو الربحية التجارية.
واللافت ان شعار «اميركا اولًا» ساعد ترامب في الفوز في الانتخابات. والاخطر قد يكون جهل ترامب للمجتمع الغربي وقيمه التي تطورت منذ الحرب العالمية الثانية ويشعر بعدم الالتزام. بالنسبة له، مضى الزمن على حلف شمال الاطلسي، ومنظمة التجارة العالمية كارثية!
لذلك قد تكون السياسة الخارجية مع ترامب مدعاة للقلق وتتكل بشكل كبير على من سيعتمد عليهم في وزارة الخارجية ووزارة الدفاع علمًا انه ولغاية الآن يبدو ان تفكيره ينسجم بالمطلق مع مصالح روسية.
لذلك قد يكون الواقع بالفعل هو ما كتبه هنري كيسينجر في اخر كتاب له عام ٢٠١٤ عن «النظام العالمي» والذي قال فيه ان العالم في حالة محفوفة بالمخاطر وقد تقترب من الفوضى الدولية ودائمًا وحسب كيسينجر هذا ليس فقط بسبب التحولات في ميزان القوى بين الشرق والغرب انما ايضًا بسبب شرعية النظام العالمي بعد الحرب التي تغيرت.
كذلك حديد كيسنجر أربعة سيناريوهات يعتبرها وعلى الارجح عاملًا محفزًا لنزاع واسع النطاق في غياب استراتيجية اميركية متماسكة مما يهدد بتحويل الاضطراب الى حريق.
ما نعرفه لغاية الآن عن الرئيس الاميركي وفكره الاستراتيجي يقتصر الى حد كبير على الخطابات الدعائية والمقابلات ويبقى السؤال من سوف يكون النموذج الذي سوف يحتذي به. وهل يصغي لنصائح كسينجر او ريتشارد نيكسون وفكره الاستراتيجي. الا ان الامور ليست كما كانت في ايامهم. بوتين اليوم ليس الاتحاد السوفياتي واوروبا ليست منقسمة والشرق الاوسط تغير كثيرًا.
لذلك يبقى ان المستقبل معرض للكثير من التطورات والرئيس الجديد غير مدرك تمامًا لأهميتها، وقد يلعب مستشاروه دورًا بارزًا في السياسة الخارجية بينما يصرف هو وقته لزيادة ربحية الولايات المتحدة تجاريًا وماليًا. وتبقى مخاطر الرئاسة الأميركية أقله في الوقت الحاضر اكثر من فرصها.