لم يتغيّر شيء ولم يتبدل حرف مذ كان لنا رئيس. منذ رئاسة المرحوم شارل دباس وهم يصنعون لنا رؤساءنا ونحن نُصفّق ونتحمس ونعلّق الصور. منذ ذلك الرئيس والمرشحون لم يُدخلوا تعديلاً واحداً على أسلوب الترشيح، يعملون في السر وينكرون في العلن وينتظرون موعد فضّ العروض وقبول واحد منهم في التزام الرئاسة.
موضوع الرئيس والرئاسة في لبنان مشكلة كبرى يتخبط فيها نظام عائلات وعشائر في نطاق ديمقراطية هشّة شكلية. انتخاب الرئيس هو النقطة الجاذبة للمنافسات السياسية، وتبعاً لها ترتسمّ المواقف وتتشكّل تكتلات نيابية وجبهات. مع انتهاء كلّ ولاية يطلّ موضوع الرئيس فيغرق الوضع السياسي في خضمّ من التجاذبات ونغرق في رمل الأسماء متناسين العوامل الحقيقية المؤثرة والفاعلة في تكوين ملامح الرئيس وصياغة أوصافه وصناعته. أعطى الرئيس نبيه بري لنفسه كلّ المساحة عندما قال جازماً بأنّه لن يكون هناك رئيس في الجلسة المقبلة. الرئيس لا يزال يُصنع في مجالس غير مجالسنا، ويُرسل لنا مع أطيب التمنيات.
انتخاب الرئيس هذه المرة لن يخرج عن المألوف في سابقاتها. ترشيح الأضداد لبعضهم البعض أظهر بما لا يقبل الشك أنّ لا نكهة لبنانية للاستحقاق الرئاسي. الزعماء السياسيون يخرج واحدهم مرشحاً من جيبه ليضعه في جيب خصمه الذي يتلقفه محرجاً، وليعود الأول فيُخرج مرشحاً آخر من فمه يربك به حليفاً أو خصماً في حركية بهلوانية يُراد منها استغباءنا وإيهامنا بأنّه يمتلك مفاصل اللعبة ويتحكّم بمسارها. إنّ أتعس ما يواجه لبنان إنّه لا يعرف إلى أين هو ذاهب وإلي أين يذهبون به، يعرف فقط أنّه معلّق بحبل الحروب الإقليمية مجهولة النهاية والتسويات الدولية والإقليمية التي لم يكن ساسته في يوم من الأيام على قدر من المسؤولية لدرء أخطارها. في لبنان أناس ذاهبون إلى الحرب وأناس ذاهبون إلى اليأس وأناس ذاهبون إلى حرب أخرى، فمن تراه يكون هذا الرئيس وما عساه يفعل إذا استطاع أن يصل، هذا إذا بقي من الجمهورية ما يستحق أن تُعلن حرب الرئاسات من أجله. بات لزاماً علينا أن نعرف ونعترف أنّ رئيس الجمهورية تنتخبه لنا وعنا إرادة دولية وإقليمية في لحظة تقاطع مصالح أو في لحظة تغيير مسارات أو انتهاء أو بداية مراحل، ونحن لا نقدم أيّة إضافة لكل ذلك سوى تأكيد عجزنا وتقاعسنا.
انتخاب الرئيس بشارة الخوري أول رئيس في تاريخ الجمهورية الثانية بمواجهة اميل إده، جاء حصيلة انكفاء النفوذ الفرنسي عن لبنان لصالح بريطانيا. الرئيس بشارة الخوري خرج من السلطة بانقلاب أبيض على وقع ثورة الضباط الأحرار في مصر ووصول الرئيس عبدالناصر إلى السلطة، التي شكّلت القاطرة لانتخاب فتى العروبة الأغرّ كميل شمعون رئيساً للجمهورية عام 1952.
ومع انضمام لبنان إلى حلف بغداد في آذار 1957، أُعلن اندماج مصر وسوريا في وحدة اسمها الجمهورية العربية المتّحدة في أول شباط 1958. انطلقت في أيار أحداث ما سمي بثورة 1958 ليتمّ بعدها بأيام انتخاب الجنرال فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، ولتبدأ معه مرحلة الشهابية السياسية ببُعدها الناصري العروبي التي استمرت لولايتين رئاسيتين أي حتى العام 1970.
في عهد الرئيس شارل حلو، هُزمت الجيوش العربية في مصر وسوريا والأردن أمام إسرائيل في حزيران 1967، تشكّلت منظمة التحرير الفلسطينية كردّ على الوضع الجديد، اعتدت إسرائيل على مطار بيروت في العام 1968 كردٍّ على العمليات الفدائية، ووقّع لبنان اتفاق القاهرة في تشرين الثاني 1969 ليكرّس رسمياً حق منظمة التحرير الفلسطينية في العمل من داخل لبنان. إنتُخب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية في العام 1970 وكان عنوان المرحلة إقصاء المكتب الثاني وإدارة مرحلة تمدد النفوذ الفلسطيني في لبنان.
انتخاب الرئيس الياس سركيس جاء مع دخول مرحلة جديدة سِماتها وقف إطلاق النار في الجولان، التفويض الدولي لسوريا بإدارة لبنان الذي تجلّى بدخول قوات الردع العربية بعظيمها السوري الى لبنان. وصول بشير الجميل إلى سُدة الرئاسة كان المعبّر عن التطورات الميدانية التي أعقبت اخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت ودخول القوات الإسرائيلية إلى بيروت في العام 1982 ووضع مسودة اتفاق 17 أيار. الرئيس أمين الجميل انتُخب بعد اغتيال الرئيس بشير الجميل على خلفية إلغاء اتفاق 17 أيار، وانتهى بأزمة رئاسية نتيجة عدم التوافق اللبناني على المرشح السوري الأميركي النائب ميخائيل الضاهر.
مثّل اتفاق الطائف الذي عُقد تحت مظلّة دولية سورية – سعودية مرحلة جديدة لإنهاء القتال في لبنان أدت إلى وصول الرئيس رينيه معوّض الذي تمّ اغتياله لينتخب بعده الرئيس الياس الهراوي. الرئيس إميل لحود تمّ انتخابه عام 1998على قاعدة استعادة سوريا لنفوذها في لبنان ورفضها للدور السعودي المتمثّل برئيس الحكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ليُمدد له لثلاث سنوات بتاريخ 3 أيلول 2004 كردّ سوري، وبعد يوم واحد على إصدار مجلس الأمن القرار 1559.
الرئيس ميشال سليمان انتُخب بعد مسلسل من الأحداث كبير تجلّى باغتيال رئيس الحكومة الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، تلاه انسحاب الجيش السوري من لبنان تطبيقاً للقرار 1559 وأعقبته حوادث دامية في بيروت أدت إلى عقد اتفاق الدوحة في 21 أيار 2007 ليُنتخب بعدها بيوم واحد الرئيس ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، كمرشح إجماع.
المرحلة الراهنة تتسم بارتفاع حدة التوتر الإقليمي بين دول الخليج العربي من جهة وايران من جهة اخرى، مما ينذر بتوسع رقعة الصراع. التورط الدولي في الإقليم لا سيما الروسي والذي تمثّل سوريا ساحته الأكثر تعبيراً، تحت عنوان محاربة الإرهاب، يخفي صراعاً كامناً مجهول الأفق. تلويح نائب الرئيس الاميركي من تركيا باللجوء الى العمل العسكري اذا فشل الحل السياسي، والاتجاه من قِبل روسيا والولايات المتحدة إلى تطوير البنى التحتية العسكرية ولا سيما المطارات في سوريا والكوادر التدريبية، وإشارة وزير الخارجية الأميركي خلال اجتماعه بوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي الى القلق الأميركي من تنامي القدرة الصاروخية لحزب الله وأهدافها الى جانب التعثّر الذي تشهده العملية السياسية في سوريا ربما تفضي هذه الظروف مجتمعة إلى توزيع جديد للأدوار قد لا تكون الساحة اللبنانية بمنأى عن تداعياته.
مَن ينتخب الرئيس هذه المرة وما هي التضحيات المطلوبة؟ وهل يكون هذا الانتخاب عنواناً لمرحلة جديدة أو تتويجاً لانتهاء مرحلة نعيشها؟