عاجلاً أم آجلاً سيعود الرئيس سعد الحريري من الرياض ليُبنى على الشيء مقتضاه في مصير استقالته من رئاسة الحكومة التي كان قد أعلنها قبل نحو عشرة أيام من العاصمة السعودية ودخل معها الوضع الداخلي في إرباك كبير، وكذلك العلاقات اللبنانية ـ السعودية.
لا يبدو انّ الحريري عائد ليعلن تراجعه عن الاستقالة، على حد ما يظن البعض ممن اعتبروا انّ استقالته كانت نتيجة «إكراه»، وإنّما لوضع شروط للعودة عن هذه الاستقالة، وقد لمّح الى هذه الشروط، بل حدّد ابرزها في اطلالته التلفزيونية من الرياض مساء امس الاوّل بحديثه عن «تسوية حقيقية نهائية» حول مواضيع النأي بالنفس عن المحاور والنزاعات الاقليمية والدولية وانسحاب «حزب الله» من الازمات الاقليمية وحل مشكلة سلاحه، وغيره من المواضيع، وغالب الظنّ انّ الحريري لن يكون في وارد الرجوع الطوعي عن استقالته تحت ايّ حجة لأنه لن يحيد، بل بات لا يمكنه التراجع عن الاسباب التي برّر فيها استقالته وفنّدها في البيان المكتوب الذي تلاه السبت في الرابع من الشهر الجاري من الرياض، معطوفةً عليها الاسباب الأُخرى التي اوردها في اطلالته التلفزيونية مساء الاحد الماضي، وإن كان لمّح الى انه يمكن ان يتراجع عن الاستقالة بشرط احترام سياسة «النأي بالنفس».
ويرى هذا القطب انّ خصوم الحريري، وعلى رأسهم «حزب الله»، لا يبدو انهم في وارد تلبية شروطه، ولذلك ُتوقّع أن يصرّ على استقالته، فيَقبلها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون عندئذٍ، ثمّ يدعو الى الاستشارات النيابية الملزمة ليسمّي بنتيجتها الشخصية السياسية التي تنال تأييد الغالبية النيابية لرئاسة الحكومة الجديدة، وغالب الظن، حسب التوقعات السائدة الآن، انّ هذه الاستشارات ستنتهي بإعادة تكليف الحريري، فإذا قبل هذا التكليف سينطلق في المشاورات التقليدية مع الكتل النيابية مشفوعةً بمشاورات سياسية لتأليف حكومة جديدة، إلّا انّ هذا التأليف قد لا يكون سهلاً، خصوصا إذا اختلفت القوى السياسية في ما بينها ومع الرئيس المكلف حول طبيعة الحكومة وتركيبتها وحصصِ هذه القوى من المقاعد الوزارية فيها، فترزح البلاد عندئذٍ في ظلّ رئيس حكومة مكلّف هو في الوقت نفسه رئيس حكومة تصريف الاعمال الى حين إجراء الانتخابات النيابية في ايار المقبل والتي يفترض ان تنتج مجلساً نيابياً جديداً، وتاليا سلطة سياسية جديدة.
وإذ يؤكد هذا القطب انه في حال لم يقبل الحريري تكليفَه تأليف الحكومة، او اعتذرَ عن التكليف لعجزِه عن التأليف وكلّفت شخصية غيره هذه المهمة، فإنّها هي الأخرى قد لا تتمكن من تأليف الحكومة الجديدة، خصوصاً إذا أُريدَ عدمُ إشراك «حزب الله» فيها، فالحزب، على ما يقول سياسيون مطلعون على موقفِه، لن يقبل بتأليف حكومة لا يكون مشاركاً فيها مباشرةً، خصوصاً في هذه المرحلة التي يشعر فيها انّ هناك حملةً اقليمية ـ دولية تستهدفه على كلّ المستويات، ويعتبر أنّ العقوبات الجديدة التي تستعدّ الولايات المتحدة الاميركية لفرضها عليه هي أحد مظاهر هذه الحملة، الى جانب طبول الحرب التي تقرَع في المنطقة ضده.
على انّ بعض السياسيين يتحدثون عن احتمال الذهاب الى تأليف «حكومة سياسية» تشارك فيها كلّ الوان الطيف السياسي بما فيها «حزب الله»، بشرط ان لا يكون ايّ وزير فيها مرشحاً للانتخابات النيابية، وتكون المهمة الاساسية لهذه الحكومة بعمرها البالغ خمسة الى ستة اشهر إجراء الانتخابات قبل ايّ مهمة اخرى.
في حين يطرَح البعض الآخر ان تكون هذه الحكومة مكوّنة من وزراء «تكنوقراط» وغير مرشّحين للانتخابات وتتولّى رئاستها ايّ شخصية سياسية من نادي رؤساء الحكومة السابقين او من خارج هذا النادي لا تكون هي الأُخرى مرشحة للانتخابات، وبين وزراء الطائفة السنية ونوابها وفعالياتها مَن هو متحمّس لهذه المهمة ويقبل بأن لا يترشح للانتخابات لأنّ المهم لديه هو دخول نادي رؤساء الحكومة اوّلاً قبل تحصيل المقعد النيابي، وحتى الوزاري، الذي يمكن تحصيله في مرحلة لاحقة.
في ايّ حال فإنّ السيناريوهات حول التعاطي مع استقالة الحريري قبولاً او رفضاً كثيرة ولم يرسُ ايّ منها على برّ بَعد، ولكن البعض يقرأ بين سطور ما قاله الحريري، ما يشير الى انّ رئيس الجمهورية قد يتلقّف ما اوحى به الحريري إليه فيدعو الى حوار في موضوع سلاح «حزب الله» وكذلك في سياسية «النأي بالنفس» من باب التشديد على تطبيقها للتوصل الى ما سمّاه الحريري «تسوية حقيقية نهائية» حول هذا «النأي بالنفس»، وكذلك حول «تدخل «حزب الله» في الموضوع الاقليمي».
والبعض يقول إنّ عون بات يميل الى فكرة اطلاقِ هذا الحوار، والتي ربّما تشكّل مخرجًا لأزمة الاستقالة بعودة الحريري عنها لتجنّبِ وقوع البلاد في حكومة تصريف اعمال الى أمدٍ طويل، خصوصا إذا تعذّر إجراء الانتخابات، لعلةٍ ما، في موعدها المقرر في السادس من ايار المقبل.
على انه، وبغضّ النظر عن القراءات المتناقضة لإطلالة الحريري التلفزيونية والمواقف التي اعلنَها خلالها، فإنّ عودته المنتظرة في اي ّوقت من الرياض، سيكون لها وقعُها على الوضع السياسي ولن يقلَّ عن الوقع الذي احدثته استقالته المفاجئة التي اعلنَها السبت قبل الماضي إثر محادثات أجراها في العاصمة السعودية.
فالجميع يقولون، كلّ منهم حسب رؤيته، إنّ الوضع بعد اعلان الحريري استقالته لن يكون كما قبله، وانّ ما بعد الاطلالة التلفزيونية لن يكون كما قبلها، فالرَجل عبّر في الاستقالة عن الاسباب التي دفعته اليها. ورؤية حلفاء الحريري لِما بعد اعلان الاستقالة تلخّصها تلك الاسباب التي تحوّلت وستتحوّل شروطاً للعودة عن هذه الاستقالة، او تؤدي الى ما سمّاه الحريري «صحوة» لمواجهة نفوذ ايران و»حزب الله» في لبنان، وكذلك في المنطقة.
وفي المقابل فإنّ خصوم الحريري يتوقفون عند هذه الشروط كونها مرفوعة في وجههم ومطلوب منهم تلبيتها، او على الاقلّ تحديد الموقف منها، قبل الانتقال الى ما بعدها، سواء قبلت الاستقالة او تراجَع الحريري عنها.
مؤيّدو الحريري وحلفاؤه يعتبرون انّ شروطه ذات الابعاد المحلية والاقليمية، وربّما الدولية، اذا ما تمّت تلبيتها يتحقّق معها «النأي بالنفس» فعلياً عن النزاعات والمحاور في المنطقة.
ولكن خصومه لا يبدو انّهم سيلبّون هذه الشروط بالسهولة التي يتوقّعها، بل ربّما سيكون من الصعب جداً ان يقاربوها، كونها ترتبط عميقاً في اساس الأزمات التي تعيشها المنطقة، وهذه الازمات تنتهي اذا حزَمت عواصم القرار الاقليمي والدولي أمرَها لإنتاج الحلول والتسويات اللازمة لها من سوريا الى العراق واليمن وغيره.
ولذلك، يعتقد كثيرون انّ الخلفيات المحلية والاقليمية والدولية لاستقالة الحريري لن تزول، بل ستبقى تذرّ بقرنِها في الواقع اللبناني والاقليمي لأنّ من الصعب توافُر معالجة فعلية وسريعة لأسباب الاستقالة ما لم تتبلَور إرادة وطنية داخلية لتطبيقٍ صارم للنأي بالنفس على الجميع، وما لم يجلس المتنازعون الاقليميون والدوليون الكبار في المنطقة على طاولة المفاوضات لتفريج الأزمات التي تعصف بالإقليم.