نصّت المادة /49/ من الدستور اللبناني، أنّ رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن، يسهر على إحترام الدستور، والمحافظة على إستقلال لبنان، ووحدته وسلامة أراضيه، ويرأس المجلس الأعلى للدفاع، وهو القائد الأعلى للقوّات المسّلحة، التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء. بهذه العبارات المفعمة بالتبجيل والعنفوان، عرّفت المادة /49/ من الدستور (المعّدلة بالقانون الدستوري رقم/18/ الصادر في 21/9/1990) رئيس الجمهورية.
بمراجعة هذه المادة الدستورية، يتبيّن جليّاً أنّها تنطوي على أبعاد وطنية وقانونية بالغة الأهّمية، حيث حدّدت الإطار الدستوري لمهمات رئيس الجمهورية ودوره، ورسمت له دائرة تحرّكه. حيث من الثابت وبالتحليل، أنّ الدستور فرض على رئيس الدولة، ثلاثة إلتزامات تحكم عمله، وعليه واجب التقيّد بها.
1- الإلتزام الأول تجاه الوطن، حيث عليه أن يحافظ على إستقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه.
2- الإلتزام الثاني تجاه الجمهورية، حيث عليه أن يحترم دستور الجمهورية وقوانينها، ومبادئ النظام البرلماني الديموقراطي، كما عليه أيضًا، من جهة ثانية، ان يعمل ضمن صلاحيّاته الدستورية على فرض إحترام الدستور، والتقيّد بأحكامه على جميع مؤسسات الدولة.
3- والإلتزام الثالث، وهو الأهّم، الإلتزام تجاه الشعب، حيث على رئيس الجمهورية أن يكون وفيّاً للشعب اللبناني، عملاً بيَمينِ الإخلاص الذي أقسمه (سنداً لأحكام المادة /50/ من الدستور اللبناني) فيسهر على مطالبه وصون وحدته ومصالحه وعزّته وكرامته.
بناءً عليه.
إن أهّم ما يجب أن يلتزمه الرئيس في إطار علاقته بالشعب هو إحترام إرادته، والإستماع إلى إستغاثته ومعاناته وألمه وأوجاعه، فإذا ما خالف الرئيس إرادة شعبه، يكون قد فقد دوره رمزاً لوحدة الوطن.
والأهّم من ذلك، أنّ عليه وأثناء توّليه مقاليد الحكم، أن يتخّلى عن إنتماءاته الحزبيّة، ويخلع عباءته السياسية، ويبتعد عن ميوله وجماعته، ويتصّرف على أساس أنّه القاضي الأعلى الذي يؤمّن المصلحة الوطنية. «Le juge supérieur de l’intérêt national» وهذا ما قاله الرئيس الفرنسي السابق «V.G.d’Estaing»، حيث اعتبر «أنّ الرئيس عندما يصل إلى الرئاسة لا يعود حزبيّاً ولا رئيسًا للحزب، لئلا يكون غريباً عن وطنه، حيث يجب عليه أن يكون حَكَماً ومسؤولاً في آنٍ معًا».
والتجربة علّمتنا، وعودةً إلى الواقع اللبناني، انّ الرئيس وعندما يفقد إنسجامه مع شعبه، ويصّم آذانه عن مطالبه، سيؤدّي به الأمر إلى الهلاك:
– في العام 1943 إعتقلت سلطة الإنتداب زعماء الإستقلال، وأقدمت على تعيين الرئيس إميل إدّه، بدلاً من الرئيس بشارة الخوري، بعدما حلّت المجلس النيابي، وعلّقت العمل بالدستور. وكان الرئيس إميل إدّه قد قبل بهذا المنصب، خلافاً لإرادة شعبه، ولإرادة مجلس النوّاب. وقد كتب له نَجله (ريمون إدّه) وقتئذٍ على ورقة صغيرة أثناء الإجتماع في السراي مع سُلطة الإنتداب «Refuse PaPa»، ولكن إميل إدّه كان قد قَبِل تعيينه في هذا المنصب، فرّد على إبنه قائلاً «C’est trop tard».
وانتهى الأمر بالرئيس إميل إدّه إلى التنّحي، بعد أن تحرّر زعماء الإستقلال، تحت وطأة الضغط الشعبي، وعاد الرئيس بشارة الخوري إلى موقعه.
– في العام 1952 وبعد ان صار تجديد ولايته الرئاسية عام 1948 أُرغِمَ الرئيس بشارة الخوري على تقديم إستقالته بتاريخ 18/9/1952، تحت وطأة الشارع، وتحت ضغط تظاهرات ضخمة عمّت لبنان، على خلفية إتّهامه وحاشيته بالفساد.
أمّا اليوم.
وبصرف النظر عمّا إذا كان قد جرى تحريف كلام رئيس الدولة في مقابلته المتلفزة، فهل يحّق للرئيس أن يخيّر شعبه بين إيجاد مفاوض عنه، أو الهجرة ؟
وهل يحّق له القول، إن لم يكن بين المتظاهرين أي أمرئ صالح، فمن الأفضل لهم أن يهاجروا…. كذا….؟ فهل هكذا يجب على رئيس الجمهورية معالجة الأزمة؟
أَلَيسَ رئيس الدولة، هو الأب الصالح، والقاضي العادل، وربّ العائلة، والمؤتمَن على وحدة الوطن، وسلامة أرضه وأبنائه؟
سيّدي الرئيس،
لا نَرغَب مُطلقاً في أن ينتهي الأمر إلى صدام بين فخامتك وبين شعبك.
لا نَرغَب مُطلقاً في أن ينتهي الأمر، إلى ما انتهت إليه ولاية الرئيس إميل إدّه، والرئيس بشارة الخوري.
ولا أعتقد جازماً، أنّه يمكن معالجة أزمة مستفحلة، بعرض العضلات، وصَمّ الآذان، وتحّدي الشارع والشعب أجمَع.
سيّدي الرئيس،
كُنّا وسَنبقى، من أشّد المدافعين عن موقع الرئاسة، فلا تَجعَل هذا المقام مرمى للسِّهام، وهَدَفاً للتّعرُّض.
صحيح أنّ الدستور رَفَعَ عن رئيس الجمهورية أي مسؤولية، مما جنّبه أي مطالبة بإستقالته، عَمَلاً بقاعدة «عدم تحّمله أي تِبعة» (عملاً بأحكام المادة /60/ من الدستور) إلاّ أنّ هذا المبدأ لا يمنع الشعب من إبداء رأيه، وعلى الرئيس أن يستمع في نهاية المطاف إلى إرادة الشعب، أو بالأقّل أن يكون تعامله مع هذه الإرادة، تعاملاً إيجابياً ومُنفَتِحاً ومُتَفَهِّماً.
وفي الختام، لا يَسَعُنا إلاّ أن نُردّد ما خلُصَ إليه مونتسكيو مِن ضرورة ان يتحلّى الحاكم بالحكمة والموضوعية، التي لا بدّ من أن يكون لها تأثير في أداء الرئيس، أكثر مما تؤثّر عليه القوانين بحدّ ذاتها.
«Les moeurs sont en réalité beaucoup plus puissants que les lois»
(D.Turpin:op.cité.p.533)