نيّف وثلاثة أشهر من الزمن، مرّ على تكليف الرئيس سعد الحريري، مهمّة تشكيل الحكومة العتيدة، من دون أن يتمكّن من إنجاز تشكيلته وأن تُبصِر الحكومة النور.
يتقاذف الساسة المسؤولية، منهم مَنْ يعتبر أنّ سبب التأخير في ولادة الحكومة يعود إلى تصلُّف رئيس الدولة وتمسُّكه بحصّة وازنة. والبعض الآخر يؤكّد أنّ الحريري، لا يعتمد المعايير نفسها مع الكافة في تشكيل الحكومة، فيُجيز للبعض التّسمية، فيما يُصادِر حصّة البعض الآخر بلا وجه حق أو مُبرّر مشروع…كذا… .
وبِغَضّ النظر عن المسؤولية، وعلى مَنْ تقع. فالسؤال الجَوْهَري يَبقى:
∗هل يقتضي على رئيس الدولة توقيع أي تشكيلة يُقدّمها له رئيس الحكومة المُكلّف؟
∗ هل لِرئيس الجمهورية، دستورًا، حصّة في الحكومة؟
لا بُدّ من الإشارة أوّلاً، وتمهيدًا للجواب على هذين السؤالين، إلى أنّ إتّفاق الطائف، ودستور الطائف، إنتزع من رئيس الجمهورية عدداً كبيراً من الصلاحيات الدستورية، فَنَقَل السُلطة الإجرائية من رئيس الدولة، إلى مجلس الوزراء.
فالمادة /17/ من الدستور قبل تعديله كانت تنُّص حرفيًّا:
« تُناط السلطة الإجرائية برئيس الجمهورية وهو يتولّاها بِمعاونة الوزراء وفاقًا لأحكام هذا الدستور».
أمّا المادة المذكورة بعد التعديل عام /1990/ أصبحت:
«تُناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء، وهو يتولّاها وفقًا لأحكام هذا الدستور».
وأيضًا، لم يَعُد رئيس الجمهورية مَنْ يُسمّي الوزراء، ويختار مِنْ بَيْنِهم رئيسًا.
فالمادة /53/ من الدستور قبل التعديل كانت تنُصّ:
«رئيس الجمهورية يُعيّن الوزراء ويُسمّي منهم رئيسًا….».
أمّا بعد التعديل، بات رئيس الحكومة يُسمّى بالتشاور مع رئيس مجلس النوّاب، إستنادًا إلى إستشارات نيابية مُلْزِمة، يُطلعه رسميًّا على نتائجها (الفقرة الثانية من المادة /53/ المعدّلة) فيما الحكومة تَصدر بمرسوم عن رئيس الجمهورية، بالإتّفاق مع رئيس مجلس الوزراء المُكلّف (الفقرة الرابعة من نفس المادة).
إضافةً إلى ذلك، حَرَمَ «الطائف» رئيس الجمهورية من صلاحية حلّ مجلس النوّاب (المادة /55/ من الدستور القديم) وإستعاض عنها بإمكانية ذلك، إنما بحالات وشروط تعجيزيّة، جاء نصّها في المواد (/55/ و/65/ و/77/ من الدستور بعد تعديله).
إعتقد البعض، أنّ إنتزاع هذه الصلاحيات من يد رئيس الدولة، أفقده كلّ دَوْرْ أم حضور. فيما البعض الآخر، روّج وعن سوء نيّة، أنّ رئيس الدولة قد جُرّد من صلاحياته، وأنّه سيسعى إلى إستعادتها بكافة الطُرُق والوسائل، قاصدًا بذلك إستعطاف الشارع المسيحي وتجييشه.
أمّا الواقع، فإنّ الطائف لم يحوّل مَوقع الرئاسة الأولى إلى مَوقع رمزي، بل أعطى له دَوْرًا وطنيًّا جامعًا. ورفع من موقع الرئاسة الأولى، حتى جعله الموقع الأول، الذي يَعْلو على كافة المؤسسات الدستورية.
فَحافظ الطائف لرئيس الجمهورية على صلاحية إصدار مرسوم تشكيل الحكومة، بالإتّفاق مع رئيس الحكومة المكلّف (الفقرة الرابعة من المادة /53/ من الدستور). وإبقاء هذه الصلاحية لرئيس الدولة، تتماشى مع كَونه رئيس الدولة ورَمْزْ وحدة الوطن، ومن مهماته السّهر على إحترام الدستور، والمحافظة على وحدته ووحدة أبنائه ومُقتضيات الوفاق الوطني (المادة /49/ من الدستور) وتتلاقى أيضًا مع قَسَمِهِ المنصوص عنه في المادة /50/ من الدستور أيضًا .
وبالتالي، إبقاء صلاحية إصدار مرسوم التشكيل مُناطة برئيس الجمهورية بالإتّفاق مع رئيس الحكومة المُكلّف، غَرَضه التأكيد على الموجب الدستوري المُلقى على عاتق رئيس الدولة، ألا وهو الحفاظ على المصلحة العُليا للبلاد. فَصَحيح أنّ رئيس الحكومة هو المسؤول أمام السلطة التشريعية، وتحكم حكومته إستنادًا إلى الثقة والتي يمنحها المجلس النيابي لها. لكن الصحيح أيضًا، أنّ على رئيس الجمهورية مسؤولية معنوية تجاه وطنه وشعبه وقَسَمِهِ.
وبالتالي، وجوابًا على السؤال الأوّل نُفيد، أنّ رئيس الدولة ليس مُلْزَمًا بتوقيع أي تشكيلة يقدّمها إليه رئيس الحكومة المُكلّف، إنما له الحق بقبولها أم رفضها أم طلب تعديلها.
أمّا لجهة ما إذا كان يقتضي أن يكون لرئيس الجمهورية حصّة في الحكومة، فمن المؤكّد أنّ رئيس الدولة هو الحَكَمْ بين السُلطات. ومَوقعه أرقى من أن يكون له رزمة من الوزراء في الحكومة.
فكَيْفَ سيكون له كلمة الحَسْمْ في حكومة هو شريك فيها؟
أوَلَيْسَ إرتكاب أي من وزراء رئيس الجمهورية، سيُحمّل الرئيس المسؤولية المعنوية والأدبية؟
مما يُفيد، إنّ رئيس الجمهورية لا يجب أن يكون جزءًا من اللعبة السياسية، وتحاصُص المقاعد والمواقع. إنما يجب أن يبقى الأب الصالح، والحَكَمْ العادل بين كافة الأطراف والأطياف.
وبالتالي، دخول رئيس الدولة في لعبة الحصص، يُفقده دَوره، ويُقزِّم مَقامه، ويجعله لاعبًا عوض أن يكون حَكَمًا فوق كل الحصص والمقاعد.
ألا تُلاحظون اليوم، كيف أنّ كافة القوى تُجاهر صراحةً وبكل وقاحة بحصصها، وبحقّها المشروع في التسمية وإنتقاء الحقائب. كلّ ذلك، بسبب دخول رئيس الدولة حلبة النزاع على الحصص، حيث كان الأجدى به أن يبقى مُترّفعًا عن الحصص، ضابِطًا للإيقاع، وأن لا يحوّل مَوقِع الرئاسة الأولى فريقًا سياسيًا يَسعى إلى جَني الحقائب والوزارات.
(دراسات في القانون الدستوري اللبناني- للدكتور وليد عبلا-ص/169/ حتى/175/).
(الثغرات الدستورية في دَور وصلاحيات رئيس الجمهورية- للمحامي الأستاذ ميشال عيد قليموس-ص/79/ حتى/89/).
كلّ ذلك، شجّع الأطراف السياسية، وكما سبق البيان، على التعدّي ودون خجل، على صلاحيات المرجع الدستوري والمُولج تشكيل الحكومة، أي رئيس الحكومة المُكلّف، الذي عليه إعداد تشكيلته الوزارية، لِعَرْضها على رئيس الجمهورية، الذي له الحق المُطلق بقبولها أم رفضها أم طلب تعديلها.
ويبقى الشعب اللبناني مُنتظرًا ولادة الحكومة، مُراهنًا إن كان في إستطاعتها تحقيق المُعجزات، لكن الحقيقة تبقى أنّ السلطة الحالية أثبتت فَشَلها، ولا أمَل منها.
فلترحل، ولتترك المواطن يُحدّد مصيره، بإنتخابات نيابية مُبكرة إذا أمكن، وفي أسوأ الحالات بإنتخابات نيابية في موعدها.
فالهروب إلى الأمام لن يُفيد، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء لن يُجدي، إتّقوا الله، فالتقوى وكما قال رابع الخلفاء الراشدين الإمام علي بن أبي طالب (599 م-661 م): «التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والإستعداد ليوم الرحيل».
فاستعدّوا إلى هذا اليوم جيّدًا، فَيَوم الرحيل قد بات قريبًا وقريبًا جدًّا، والآتي أعظم.