IMLebanon

أيّ رئيس للجمهورية؟

 

أيّ رئيس ترونه الأفضل للبنان في هذه المرحلة؟

هذا السؤال تمّ توجيهه الى فؤاد افرام البستاني، العلامة والمؤرخ، أول رئيس للجامعة اللبنانية وعضو الجبهة اللبنانية. كان ذلك عام 1981 على ما أذكر، خلال محاضرة جمهورها من الاعلاميين. ومعروف عن هذا البستاني الكبير أنه كان يستذكِر التاريخ ليجيب عن تساؤلات الحاضر، ويعرض الوثائق ليستخرج منها الأمثولات.

 

قال للحضور: سأجيب عن هذا السؤال من خلال احدى روايات العهد القديم، وهي رواية خروج الشعب اليهودي من مصر. وراح يروي ما ورد في كتاب العهد القديم حين أراد الشعب اليهودي الخروج من حال العبودية التي كان يعيشها تحت حكم الفراعنة لينتقل الى «أرض الميعاد».

فقد رفض الفراعنة السماح لليهود بمغادرة مصر اذ كانوا يودّون إبقاءهم عبيداً عندهم.

فتدخّل إله اليهود وأنزلَ بالمصريين ضربات عديدة ومصائب كبيرة، وطلب من موسى (النبي) أن يقود شعبه الى الحرية.

 

قاد موسى الشعب وسار به الى خارج مصر فيما جيش الفراعنة يطاردهم. أمام البحر الأحمر حيث تعثّر العبور على وقع أصوات حوافر خيل الفراعنة التي تقترب، تدخّل الراعي الإلهي مرة جديدة، كما تضيف الرواية، وأوقف تدفق الماء فظهرت اليابسة التي اندفع عليها الشعب الهارب ليتمكن من العبور. ثم عادت الماء الى مجاريها لتجرف الجيش وتوقف مطاردة الهاربين.

 

ويضيف فؤاد افرام البستاني، مُتابعاً سَرديته: يروي العهد القديم أن الشعب اليهودي وصل مع موسى الى صحراء سيناء وتاه فيها اذ لم يعرف اين هي الطريق التي تقوده الى الأرض التي يبحث عنها. وقد بقي الشعب المهاجر تائهاً في الصحراء لمدة 40 عاماً. وتقول الرواية انّ موسى مات في الصحراء، وان شقيقه يشوع هو من تولّى القيادة من بعده وواكب مسيرة الشعب.

 

وهنا يتدخل الراوي ليحلّل الرواية، فيسأل: أين كان إله الشعب اليهودي حين تاهت المسيرة وأضاعت الطريق؟ وكيف يمكن لإله صنع كل المعجزات لإخراج الشعب من العبودية وذلّل أمامه كل الصعوبات أن يعجز عن أن يَدلّه الى الطريق، فهل هناك أبسط من هذا؟

 

ويضيف: إذا كان الاله ترك الشعب يضيع في الصحراء لمدة 40 عاما فلأنه أراد ذلك لهدفٍ ما.

 

خلال هذه الأعوام الأربعين مات جيل كامل في الصحراء وولد جيل آخر. مات الجيل الذي عرف العبودية في مصر، وولد جيل جديد حر لا علاقة له بالماضي، جيل لم يعرف الخنوع والذل والتبعية، جيل نَما على الحرية والعنفوان. لقد أراد الاله ان لا تَطأ أرض الوعد سوى أقدام حرّة، لأنّ جيل الحرية هو القادر على بعث روح جديدة وتأسيس مجتمع سليم.

 

وتوجّه فؤاد افرام البستاني نحو الحضور قائلاً: تعرفون الآن من أرشّح لرئاسة الجمهورية! أرشّح أحداً من غير الفاسدين، من غير الطبقة التي لطّخت أياديها بالسرقات والصفقات والسمسرات، أرشّح أحداً من خارج الطبقة التي تعاطت مع لبنان على أنه مزرعة لها. أرشّح أحداً ما عرف الّا الحرية والسيادة ونظافة الكف. أرشّح بشير الجميّل، لأنّ الطبقة المعتادة على الفساد لا تستطيع أن تقوم بالإصلاح. انه هو القادر على بناء مجتمع جديد.

 

كان هذا منذ 40 عاما. مات بشير الجميّل ولم يمت حلم الشعب اللبناني بدولة كتلك التي نادى بها بشير وجعل كامل الشعب اللبناني يحلم بها.

 

توالى من بعده رؤساء جمهوريات، توالت حكومات، وتوالت مشاريع ولم يتحقق حلم بناء الدولة الذي كان يبدو على قاب قوسين مع بشير. فليست المشكلة في نقص المشاريع ولا في نقص الرجال اللاهثين وراء السلطة ومغرياتها، إنما هي في رجال دولة أكفّاء ونزيهين، على شاكلة الرئيس فؤاد شهاب الذي هو أيضاً يبقى في الذاكرة مثالاً ونموذجاً لرجل الدولة.

 

عبر التاريخ، كان الافراد هم من يتميّزون في الانجازات الكبرى، في الفتوحات، في الاختراعات، في بناء الدول، وليست الجماعات او الشعوب. حتى الثورات الشعبية يقودها أفراد وقادة. لكل شعب رجالاته، لكل وطن قادته، كما نذكر في تاريخ لبنان رجالات مثل فخر الدين او البطريرك الحويّك، ولكل طائفة أو حزب أشخاص تشكل مرجعيتها. كذلك الدول، كما نابوليون أو ديغول عند الفرنسيين، أو لينكولن ومارتن لوثر كينغ عند الاميركيين. والامثلة كثيرة. من يصنع التاريخ هم أفراد يقودون شعوبهم إمّا الى الدمار، وإمّا الى الإنجازات الكبرى.

 

طبعاً نزاهة القائد وشجاعته وقوة شخصيته مهمة لكنها لا تكفي وحدها لنجاحه، إنما يلزمه الكفاءة والعقل الراجح. فالكفاءة تسمح للقائد أن يحسن اختيار مساعديه، يدرك أنه لا يمتلك كامل المعرفة، ينحو نحو العقلانية. أمّا النزاهة فتقود المسؤول نحو الخير العام، نحو مصلحة الشعب، فلا تهمّه القصور، ولا جمع الثروات، حتى المنصب بحد ذاته يراه لخدمة الوطن. هناك نماذج كثيرة عن قادة في العالم بنوا دولهم وأمنّوا الرفاهية والرخاء لشعوبهم، كما هناك نماذج عن مسؤولين قادوا بلادهم وشعوبهم الى الدمار والذل والفقر.