لا يملك رئيس الجمهورية في لبنان عصا سحرية. لا يملك أي صلاحيات تنفيذية. لا يملك أكثرية في المجلس النيابي. لا يملك سوى «السهر على احترام الدستور». بهذه الوضعية يبدو عهد الرئيس ميشال عون مكبّلاً بالنظام الاقتصادي والمالي والنقدي السائد في لبنان منذ مطلع التسعينيات. التزام نهج تغييري في نظام كهذا، قائم على الفساد، مهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة
جاء خطاب القَسَم للرئيس ميشال عون هادئاً. لم يكن مستفزّاً رغم أنه كان منسوجاً بدقّة كمن يسير بين الألغام. خطابٌ لهجته العامة تسووية. يقدّم توصيفاً للمشكلة ثم يستنتج منه اقتراحاً للمعالجة. في السياسة والأمن، لم تبرز تلك النزعة «الثورية» التي وردت عند الحديث عن الاقتصاد. تحدّث الرئيس عون عن «ازمات متلاحقة اقتصادياً واجتماعياً تفرض نهجاً تغييرياً لمعالجتها». ألحق ذلك، بضرورة إقرار «خطة اقتصادية شاملة»، ثم أشار إلى استثمار الموارد الطبيعية لتكبير حجم الاقتصاد، لافتاً إلى إشراك القطاع الخاص مع القطاع العام وتطبيق اللامركزية الإدارة.
لم يدعِّ عون أن فرض نهج تغييري مهمة سهلة. ولا هو مهمة سهلة أصلاً. بل ربما من أصعب المهمات التي ستواجه العهد الجديد. نقطة البداية في مهمة كهذه تشبه البحث عن إبرة في كومة قشّ. فعلى أي ركن يتكئ العهد الجديد، وهو الأدرى بأن رئيس الجمهورية لا يمللك حلولاً سحرية، ولو ملكها فإن تنفيذها يفتقر إلى صلاحيات تنفيذية وضعها اتفاق الطائف بيد مجلس الوزراء ورئيسه. والرئيس لم يأت بأكثرية ساحقة في المجلس النيابي، كما صار لغيره من الرؤساء السابقين في جمهورية الطائف، بل يدرك أن معارضيه كُثُر هناك حيث صوّت ضدّه 44 نائباً، سواء كان تصويتهم بورقة بيضاء أو بغيرها.
إذاً، أين تكمن نقطة البداية لتطبيق النهج التغييري؟ هل يتيح المشهد السياسي الحالي مثل هذه الخطوة؟
الواقع الحالي لا يتطلب شرحاً طويلاً، فالوضعية العامة لمالية الدولة اللبنانية معروفة، إذ إن العجز بدأ يقترب من 6 مليارات دولار سنوياً، فيما الدين العام الحكومي يبلغ 74 مليار دولار والدين العام للدولة يتجاوز 118 مليار دولار بعد احتساب ديون مصرف لبنان للمصارف. وتثبيت سعر صرف الليرة لا يعكس حقيقة أن سعر الصرف الفعلي تضاعف خلال العقدين الأخيرين بنحو ثلاث مرات ما انعكس سلباً على القدرات الاستهلاكية للمقيمين في لبنان… كل هذه المؤشّرات هي نتاج نظام قائم على استقطاب التحويلات المالية الخارجية لتمويل الدين والعجز المتواصل ونموّه السنوي. مصرف لبنان يمسك بهذا النظام من أطرافه كلّها؛ يحافظ على أسعار فائدة أعلى من الفائدة العالمية تحفيزاً لاستقطاب التحويلات المالية من الخارج، ثم يعيد توزيع هذه الأموال عبر قناة أساسية هي المصارف التي تضخّ قسماً منها عبر إقراض القطاع الخاص، وقسماً آخر عبر تمويل الدين العام. أما الخزينة اللبنانية فهي تستمرّ في الاستنزاف، إذ إن إنفاقها أكبر من إيراداتها، وبالتالي تستمر الحاجة إلى المزيد من التحويلات الخارجية.
أولويات نقدية ــ مالية
ليس الأمر بسيطاً، فهذا النوع من الإنفاق والتدفقات لتغطيته، يفرض خلق قنوات ومسارات يعيث فيها الفساد. 60 مليار دولار ذهبت من الدين العام للمصارف، فضلاً عن أن قسماً كبيراً أيضاً ذهب على الإنفاق التشغيلي على إدارات الدولة التي باتت في قبضة أمراء الحرب الذين «نشروا» أزلامهم فيها لضمان حصولهم على ولاء سياسي أو حصّة من المغانم.
يقترب العجز من 6 مليارات دولار سنوياً ويتجاوز الدين العام 118 مليار دولار
الإنفاق لم يعد مرتبطاً بالحاجات الاقتصادية الفعلية، بل رهن المحاصصة السياسية وتوزيع المنافع على الأزلام والمحاسيب والرشى… لذلك كان خطاب عون واضحاً لجهة ربط «الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي» بـ «إرساء نظام الشفافية عبر إقرار منظومة القوانين التي تساعد على الوقاية من الفساد».
في رأي الخبير الاقتصادي توفيق كسبار، فإن الأولوية النقدية والمالية تتقدّم على الهموم السياسية والأمنية. يرى كسبار أن «التطورات المالية والنقدية وما تسمى هندسات مالية، خلقت تغيرات في ميزانيات المصارف بحيث لم تعد المشكلة تكمن في الخوف مما قد يصيب سعر صرف الليرة، بل من الارتباط العضوي للمصارف مع ديون الدولة ومصرف لبنان. صار وضعها مرتبطا ارتباطا عضويا بمصرف لبنان وبالدولة على نحو معقد أكثر من أيام الثمانينيات».
يعتقد كسبار أنه ليس هناك ما هو مستحيل في السياسة والاقتصاد، لذا فإن ما يمكن القيام به هو أخذ قرار مركزي يتعلق برئيس الجمهورية ومجلس الوزراء. «فعلى سبيل المثال هناك بعض الإجراءات التي تهدئ الوضع وتخفف من المخاطر، كأن يجتمع مجلس الوزراء ويأخذ قراراً صارماً في وضع حدود لارتفاع عجز الموازنة على مدى ثلاث سنوات. إن هذا العجز يبلغ اليوم 5 مليارات دولار برغم التوفير في الفاتورة النفطية، وكبحه إشارة ثقة للاسواق الداخلية والخارجية، تترك انطباعاً بأن السلطة جديّة في ضبط أوضاع النقد».
وضع محشور
بالنسبة إلى الوزير الأسبق شربل نحاس، فإن الأمر لا يتطلب جهداً كبيراً لمعرفة أن «الوضع محشور»، فضلاً عن أنه لا وجود لمؤشرات توحي بأن هناك بالونات أوكسيجين كأن يكون اعتماد لبنان على ارتفاع أسعار النفط لتعزيز التحويلات المالية المتدفقة من الخارج، أو «تركيب منفخ من صنف باريس 2 بسبب ضعف قدرات الدول المانحة وأزماتها الاقتصادية».
يلقي نحاس نظرة على نتائج السنوات الماضية التي انتج فيها النظام الاقتصادي هندسات مالية استثنائية بشكلها وبحجمها ومفاعيلها (آخر هندسات مالية ينفذها مصرف لبنان حققت للمصارف أرباحاً تزيد على 4 مليارات دولار خلال اشهر قليلة وهي مستمرة إلى اليوم). كذلك برزت الاشتباكات بين زعماء المافيات الذين تزاحموا على الحصص والتلزيمات، وابرز مثال في هذا الموضوع النفايات وسواها.
سعر الصرف الفعلي
تضاعف خلال العقدين الأخيرين بنحو ثلاث مرات
ومن عوارض النظام السائد أنه تكرّست خلال السنوات الماضية، عملية استبدال الآليات الدستورية للمالية العامة بنظام معرفي مبني على الأمر الواقع لجهة الإنفاق والاستدانة… «كل هذا يدل على أن اي عمل اقتصادي ومالي ونقدي يجب أن يمرّ من خلال الموازنة العامة. هي مدخل وحيد لأي معالجة» يقول نحاس.
معالجة هذه المسألة معروفة «إذا اعتبرنا أن الدستور قائم وأن العرف المطبق حالياً هو في مرتبة أدنى من الدستور، فإن إعداد الموازنة وإقرارها أمر جوهري لا مفرّ منه»، لكن إلى جانب ذلك، هناك بنود تنظيمية وإجرائية بالدستور تطبق اليوم، فأي اعتبار يسمو على الآخر؟». ويعتقد نحاس أن «مشكلة العهد الحالي أنه في فترة التكليف والتأليف، ليس هناك حكومة تنفذ الدستور، أي لا حكومة تعدّ الموازنة وترسلها إلى مجلس النواب لإقرارها، وهذا يفرض اتخاذ قرار إضافي في مواجهة الدستور، إذ قد يصبح تطبيق العرف تطبيقاً للأمر الواقع».
رؤية نحاس مبنية على أن رئيس الجمهورية ليس «حكماً» بل هو «يسهر على تطبيق القوانين»، إذ إن صفة حكم تسللت من خلال الأعراف وتطبيق الأمر الواقع «لذلك على العهد ان يختار اي طريق يسلكه: الدستور أم الأعراف أم الأمر الواقع».
وبصرف النظر عن الخيار الذي وقع عليه العهد، فإن هناك مجموعة من المشاكل المتأتية عن المشكلة الأساسية: «كيف نتعامل مع المخالفات الفاضحة للدستور وهي قيد التطبيق حالياً؟ النفايات مثالاً. هل يفرض منطق التسوية نفسه أم أي منطق. وعلى سبيل المثال أيضاً، فإن الحكومات السابقة منحت على هامش مناقشات سلسلة الرتب والرواتب سلفة لموظفي القطاع العام من دون أي قانون يشرّعها، وبالتالي أي خيار سيأخذه العهد: استعادة السلفة أم إقرار وتشريع سلسلة الرتب والرواتب». وبحكم الأمر الواقع، «جرت العادة الاستدانة بالليرة اللبنانية من دون تحديد لسقف هذه الاستدانة، فما هو خيار العهد: الاستمرار بالاستدانة بهذا الشكل أم وضع سقف لها».
المتآلفون والمعارضون
على أرض الواقع، يصبح توصيف تحديات العهد الجديد أمراً مختلفاً. إرساء نظام الشفافية، الذي ورد في خطاب القسم، وإقرار القوانين التي تساعد على الوقاية منه، هما أمران مختلفان. فهذه القوانين، وإن كانت ليست بمستوى مرتفع، إلا انها موجودة ويمكن تطبيقها ولا يجوز انتظار عملية تطويرها لإرساء نظام الشفافية. في رأي نحاس لا يجوز الخلط بين اللصوص و«نظام حكم الأمر الواقع المستند إلى الأعراف». اللصوص يكافحون من خلال القوى البوليسية، أما نظام الحكم، فيجب الاعتراف بوجوده أولاً ثم مكافحته، «وهذا ما يعيدنا إلى الآتي: المتآلفون مع انتخاب الرئيس ميشال عون، والمعارضون له، الذين كانوا خارج التركيبة أو على هامشها ويريدون الدخول إليها اليوم». الخيارات لا يجوز أن تكون بين الغاء رموز النظام واستبدالهم بالوافدين الجدد، أو بين الوافدين الجدد الساعين للحصول على حصة من الكعكة مع الأقدم منهم، بل يجب أن تحصر الخيارات بالمعركة على نظام جديد يضمن إرساء الشفافية المطلوبة».