من عرسال إلى بريتال، الأزمة متنقّلة ومفتوحة على المجهول. كانت المواجهات مع الجيش، أصبحت وجهاً لوجه مع «حزب الله». كانت تحت راية وطنيّة، أصبَحت تحت راية مذهبيّة، فيما الأبواق النافخة متعدّدة، والمستثمرون كُثر، وكأنّ المطلوب القضاء على أيّ بصيص يُوحي بنهاية النفق.
حتّى القنوات المفتوحة لإيجاد نهاية سعيدة للعسكريين المخطوفين، تصطَدم بين الحين والآخر بعراقيل غير متوقّعة تزيد من تعقيدات الوضع.
بصراحة إنّها حرب مخابراتيّة مكشوفة تُديرها وترعاها دوَل وجَدت على الساحة فرَصاً كثيرة لإثبات الحضور، وإظهار قدرة على التعطيل في ملفات مرتبطة بأزمات المنطقة.
ويساعد الغموض الذي يكتنف الموقف الدولي من اتّساع مساحة القنوط، ذلك أنّ دوَل التحالف تبدو وكأنها «تشتغل على القطعة»، حتى إذا ما قرَّرت دولة القيام بطلعة جوّية، سارعَت إلى الإعلان عنها، مع شرح مستفيض عن طبيعتها، وكأنّ المطلوب تسجيل موقف، أو تأكيد الحضور، أو وضع علامة إيجابيّة على قائمة الدوَل التي وعَدت بالمشاركة في الغارات الجوّية.
بالطبع هناك «بنك أهداف»، وخطط تنفَّذ بدقة، لكن في المقابل هناك تساؤلات حيال المدّة الزمنية، والمدّة التي سستغرقها عمليّة اجتثاث الإرهاب، وما هي المحصّلة النهائيّة، وكيف ستكون حال الدوَل، والأنظمة، والشعوب. هل هي متقاتلة متناحرة منقسمة على نفسها إلى دويلات مقفلة على خلفية طائفيّة مذهبيّة متزمِّتة، أم على رحابة من التسامح والحرّية والديموقراطيّة؟
البدايات لا تُغري، وكأنّ العنوان «داعش»، فيما العمليات العسكريّة ترمي إلى تدمير البنى الإقتصادية، بحجّة تجفيف منابع التمويل، في حين أنّ المسألة لا تحتاج إلى كلّ هذا «الجهد» لو كانت النيّات صافية والمقاصد صادقة، ويكفي ممارسة الضغط والرقابة المتشدّدة على الجهات المموّلة لشلّ نشاطات التنظيمات الإرهابيّة، لكن يبدو من خلال الممارسات أنّ الأهداف المرسومة أبعد من «داعش»، و«النصرة»، إنّها مرتبطة بمستقبل النفوذ ونزاع المصالح على الخريطة الشرق أوسطيّة.
يحتسب لبنان جيداً كلّ هذه الحسابات، ويأخذها في الاعتبار. زيارة رئيس الحكومة تمام سلام الى نيويورك كانت موفّقة، حيث اجتمع بعدد كبير من المسؤولين المعنيين بالتحالف الدولي، أو بأوضاع المنطقة، وسمعَ وعوداً وتطمينات كثيرة، لكنّ تسارعَ الأحداث وضع الجميع في الموقع الصعب، والخيارات الأصعب، والدليل ما تعيشه ساحة الاستحقاق الرئاسي.
لقد اقتنعَ المجتمع الدولي بأنّ المجلس الرئاسي المتمثّل بالحكومة السلاميّة لا يستطيع أن يُمرّر لبنان وسط حقول الألغام بأقلّ كلفة من الخسائر، كما أنّ الصلاحيات الفيدرالية التي اقتطعها قادة الطوائف والمذاهب، لم تمكّنهم من ضبط الشارع.
هناك خروج على الانتظام العام، وتمرّد على القوانين النافذة، وأعباء مالية واجتماعية واقتصاديّة وصحّية ومعيشيّة وتربوية تتخطى حدود وطاقات وإمكانات الفاعليات على مواجهتها، فانتقلت الأزمة من الأتباع والمحاسيب لتلقي بثقلها على كاهل القيادات التي عادت لتحنَّ إلى الدولة ومؤسساتها لتتحرّر من الأعباء، والتحدّيات التي تواجهها.
كان الجيش ولا يزال، صمّام الأمان، والعمود الفقري للدولة والنظام والكيان، وحارس السيادة والكرامة الوطنيّة، ولكنّه وُضع في الموقع الصعب، والخيار الأصعب، «لا سلاح… وعليه مكافحة الإرهاب؟!».
وفي عودة سريعة إلى مخزون المواقف والتصريحات يتبيّن كم أنّ التواطؤ كبير، وكم أنّ الإزدواجيّة قاتلة. كثير من الدول الشقيقة والصديقة التي وعدت بالتسليح والتجهيز، لم تفِ بوعودها، وكثير منها شريك الآن في التحالف الدولي ويدعو الجيش إلى أن يكون على مستوى الآمال المعقودة عليه في مكافحة الإرهاب، وكأنّ المطلوب أن يواجه بـ»اللحم الحيّ»، وهذا ما هو حاصل حتى الآن.
وأمام تسارع التطورات وتعاظم التحديات، تبرز معادلة جديدة مختلفة. كان الاعتقاد بأنّ انتخاب رئيس للجمهوريّة يؤشّر إلى بدء مرحلة جديدة في لبنان، من عناوينها التفاهم على قانون انتخاب عصريّ، وإجراء انتخابات نيابيّة، وتأليف حكومة قادرة وفاعلة، وإطلاق ورشات الإصلاح المالي والسياسي والإقتصادي، ووضع البلاد على سكّة الاستقرار الأمني والبحبوحة الاقتصاديّة… اليوم تغيَّر المشهد والحسابات أيضاً، المطلوب رئيس يواكب الأزمة، ويسعى قدر الممكن والمستطاع الى الحدّ من تداعياتها على الداخل المأزوم، رئيس يُبقي على ما تبَقّى من مقوّمات وطن وسيادة ودولة ونظام، الى حين انتهاء مهمة التحالف الدولي في ترسيم حدود الكيانات السياسيّة والإقتصاديّة الجديدة. وإذا كان ثمّة مَن يقول إنّ التحالف قد يستغرق عشر سنوات للقضاء على الإرهاب، فإنّ لبنان لا يمكنه أن يستمرّ عشر سنوات بلا رئيس.