لأن هناك ثلاث طاولات للحوار تشكل «المثلث الذهبي» الوطني وهي: طاولة حوار «النيات» بين القوات اللبنانية والتغيير والإصلاح، وطاولة «حوار الطرشان» بين المستقبل وحزب الله، وطاولة حوار «التمديد» لرؤساء الكتل البرلمانية والزعامات الوراثية.
ولأن موضوع رئاسة الجمهورية هو البند الأول على لائحة الطاولات التي لم يكن عليها من طعام إلا السكاكين، ولم تتوصل بعد مضي ما يقارب الخمسمئة يوم على الشغور الرئاسي من تبرير الوقت المهدور وإعلان ما هو مستور في الصدور.
ولأن الأمر بات ينذر بشغور الجمورية وليس بشغور رئاستها فلم يبق والحال هذه، إلا التمثّل بسابقة تاريخية قد يصح الإقتداء بها، نستذكرها مع الذكرى الخامسة والتسعين لولادة جمهورية لبنان الكبير.
يومها… كان الممر الإلزامي الى رئاسة الجمهورية المفوض السامي الفرنسي الكونت «دوجوفينيل» والذي كان متأثراً حتى التباهي بإنجازات الثورة الفرنسية بما حققت وفق شعارها الأشهر: «الحرية والعدالة والمساواة» في مجال حقوق الإنسان وديمقراطية الشعوب.
ولأن الواقع اللبناني كان أشبه ما هو عليه اليوم من تجاذب وطني وفساد سياسي وانقسام ماروني موروث، فلم يكن أمام المفوض الفرنسي إلا أن يحدد مواصفات أول رئيس لجمهورية لبنان أبرزها: «أن يكون خارج أي إنتماء حزبي، بعيداً من أي مشاحنات سياسية أو خصومة مع فريق ضد فريق، وله صفة العالم والنزيه والنظيف الكف…».
هذه المواصفات لم تكن تنطبق في ذلك الحين إلا على شارل دباس الأرتوذكسي، وبالرغم من اعتراض البطريرك الحويك على أساس أن هذا المنصب يجب أن يكون للموارنة، إلا أن بطريرك دولة لبنان الكبير وافق على هذا الإختيار لمرة واحدة، لأن به ينتصر إنتخاب الرئيس على الشغور، وتنتصر الحيادية على الإنقسام الوطني، وتنتصر الكفاية على المذهبية، وتنتصر للطائفة المارونية على شراسة التقاتل بالسلاح الأبيض على الكرسي.
هذا يعني، أن الإنتخابات الرئاسية في لبنان ووجود مفوض سامٍ فرنسي أو سوري إستحقاقان متلازمان، وإلّا فلا رئاسة ولا رئيس، ونحن اليوم لا نزال نجرر الواقع التاريخي نفسه الذي ساد منذ ولادة الجمهورية الأولى، متأجِّجاً بالإنقسامات الوطنية، والتجاذبات الطائفية، والمفاسد، والمذهبيات، ومن دون أن يتوقف القصف المدفعي الماروني ولو بأسلحة كاتمة للصوت.
ولأن من المستبعد في المستقبل المنظور أن يمنّ الله على لبنان بمفوض سامٍ جديد، فإن ما ينقذ الرئاسة اللبنانية هي المواصفات التي حددها الكونت «دو جوفينيل» في شارل دباس الأرتوذكسي، وليسمح لنا إخواننا الموارنة، فليس كل قصير القامة نابوليون، وليس كل أصلع شكسبير، وحين يصبح الخيار بين الرئيس الأرتوذكسي والشغور الرئاسي، فليكن الأرتوذكسي، أو بين الأرتوذكسي والتقاتل الماروني فليكن الأرتوذكسي، لعل الله يقي الموارنة والبلاد شرّ هذه الكرسي القاتلة.