سيكون من الصعب الإحاطة بمختلف جوانب التمرّد الذي قامت به حركة فاغنر بقيادة زعيمها يغفيني بريغوجين ضد الزعيم الروسي فلاديمير بوتين يوميّ 23 و 24 حزيران 2023. لقد بدأت حركة انقلابية تسعى للسيطرة على موسكو وتقدّمت أرتالها العسكرية مئات الكيلومترات باتجاه العاصمة الروسية. ومع ارتفاع لهجة التحدي لدى الرئيس بوتين الذي دعا رجاله «إلى سحق ما وصفه بالتمرّد الخائن» والذي تمثل بسيطرة بريغوجين على مدينة روستوف بجنوب روسيا وقطعه ثلثي المسافة إلى موسكو من دون مقاومة تذكر. وهكذا عاد بوتين عن موقفه المتشدّد وعفا في مساء اليوم نفسه (يوم التمرّد) عن بريغوجين ورجاله، بعد اجراء مفاوضات مع الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو على تسوية لإنقاذ ماء الوجه لمختلف الفرقاء، والرئيس بوتين بشكل خاص.
أولاً: صراع الإيديولوجيات
شهد القرن العشرون بروزاً للإيديولوجيات في العالم العربي وفي العالم. تمثل هذا الأمر بقيام ثلاث إيديولوجيات أساسية في مختلف الثقافات والحضارات: الإيديولوجية الليبرالية، الإيديولوجية القومية، والإيديولوجية الطبقية (الماركسية اللينية).
وكانت روسيا معقل تبرير وتطبيق الإيديولوجية الطبقية انطلاقاً من اجتهادات لينين ثم من مقاربات القادة الروس وصولاً إلى الرئيس الحالي بوتين، الذي أدخل على التجربة الماركسية اجتهادات صعبة ومعقّدة يأتي في مقدّمها استخدام القدرات المسلحة الميليشيوية في خدمة العمل الحزبي. وهو ما يمثله قيام مؤسسة فاغنر في روسيا بقيادة يغفيني بريغوجين في النشاط الأمني والعسكري داخل روسيا وخارجها، دفاعاً عما تعتبره مصلحة روسيا العليا.
إنّ وجود تنوّع عسكري في السلطة سيؤدي حكماً إلى تنوع سياسي حيث تتعدد مراكز التحليل والتبرير والقرار وهو ما يخلق صراعاً داخل السلطة ويضعف بالتالي من مصداقية الدولة. وهذا ما رأى الكثيرون الآن أنّه حصل لحكم الرئيس بوتين، إذ برغم صفقة الحل لوقف التمدد العسكري، فإنّ سلطة بوتين صارت سلطة منقسمة على نفسها ومثل هذا الانقسام السياسي تكون له مفاعيله السلبية على صعيد الدولة والوطن.
إنّ استغلال مراكز القوى داخل السلطة الرسمية للدولة، وجعلها وسيلة لابتزاز أرباح مادية تخلق تنوعاً بل تناقضاً في الاجتهادات لدى المسؤولين ما يفسح في المجال للاتهامات والتهجمات وحتى الاغتيالات. وفي وضع كهذا يصبح من الصعب تبيان الحقائق وكشف الاضاليل.
إنّ ما يحدث اليوم في روسيا بين بوتين وبريغوجين يوجّه ضربة قاتلة إلى العقيدة الماركسية اللينينيّة قبل أن يوجّه صفعة للنظام الذي يتحكم بروسيا. ذلك أنّ النظام الذي شاءه لينين نموذجاً للأنظمة ذات المصداقية في العالم، لا يمكن أن يتحول في ليلة وضحاها إلى نظام استغلالي انقسامي أمام أعين العالم أجمع.
يمكن القول بل التأكيد، في ضوء ما عرضنا، أنّ الحكم الآن في روسيا بفرعيه ووجهيه وجيشيه، ليس من العقيدة الماركسية بشيء. إنّه شركة تجارية يتوخى بعض من يتحكم بها أن يحقق لنفسه الإمرة الأفضل، والربح الأكبر. وهذا يفسر بالضبط التوصل إلى صفقة سريعة لتجاوز الأزمة. ذلك أنّ المطلوب هو اخفاء الأسرار لا كشفها!
إنّ الطريقة التي تمت بها لفلفة التمرد والانتقال به قيادة وجيشاً إلى بيلاروسيا هي طريقة فعالة ولكنها ليست دائمة. ذلك أنّ وساطة رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو كانت أشبه بمخرج لبوتين أولاً وبريغوجين ثانياً ولكنها ليست حلاً لأي منهما. وبالتالي فإنّ الأوضاع داخل روسيا وتحديداً داخل نظام بوتين السلطوي سيشهد من الآن وصاعداً تحركات وتقلبات ومواجهات.
ثانياً: فاغنر وميزان الربح الروسي
ما هي المبررات التي تجعل من مؤسسة فاغنر مدخلاً لميزان الربح بالنسبة لروسيا؟
إنّ أهم وأبرز هذه المبررات هي الدور المميّز الذي تقوم به قوات فاغنر في الحرب الاوكرانية. فهي تبرز قدرات قتالية لطالما ساعدت القوات الروسية على مجابهة القوات الاوكرانية. وهو أمر ترتبط به قدرة روسيا في الحرب ومدى خسارتها لها من دون دعم فاغنر. ولذا صار لقوات فاغنر تقدير واحترام لدى الشعب الروسي الأمر الذي بدأ مؤخراً لدى تحرك هذه القوات.
الأمر الثاني الذي لا يقل أهمية عن الأول هو الدور الذي تلعبه فاغنر في بعض الدول وخاصة بعض الدول الأفريقية. فهي تستخدم قدراتها العسكرية لايجاد توازنات سياسية – عسكرية جديدة في بعض البلدان الأفريقية ذات الضعف السياسي في تركيبتها الولائية، ولكنها بالمقابل ذات غنى بالمواد الأولية من مواد وغاز. وهكذا تستفيد فاغنر من هذا الوضع لكي تنقل المواد الغالية من معادن الذهب وسواه إلى روسيا، مستغلة بؤس الشعوب الأفريقية وهذه مهمة ذات مردود مادي فئوي ووطني.
الأمر الثالث هو التعاطي مع الشعب الروسي بكرم واحترام الأمر الذي يجعلها محبوبة ومحترمة من جانب الشعب الروسي، وهو أمر اظهرته الأمور الأخيرة لعملية التمرد حيث كان المواطنون الروس يحيّون ويشيدون بقوات فاغنر في مختلف أنحاء البلاد.
… في ضوء ذلك، يمكن التركيز على ثلاث نتائج تجدر العودة إليها والتأمل بها من خلال أحداث روسيا:
– النتيجة الأولى تتعلق بسلاح روسيا النووي وهو الأكبر في العالم. إنّ وقوع شرخ داخل السلطة الروسية يؤثر حتماً ومعنوياً على امتلاك السلاح النووي ويصبح الأمر مصدر تهيّب وترقّب، ولكنّ تفكّك القوة المتحكمة بالسلاح النووي يثير التساؤل والذعر عما قد يحدث في أي وقت تتصارع فيه هذه القوى داخل السلطة الروسية، وما يمكن أن تفعله في ظروف معينة وهو ما ألمح اليه الرئيس بوتين في أكثر من مناسبة تعليقاً على حربه في أوكرانيا. إنّ وحدة السلطة في موسكو هي عربون ضمان فعلي لعدم التلاعب بالأسلحة النووية الروسية.
– النتيجه الثانية تتعلق بالنظام الدولي الجديد وتأثير أحداث روسيا فيه وعليه. إنّ قيام تحالف شرقي الكرة الأرضية يضم على خط مستقيم عواصم بكين وطهران وموسكو يشكل انقلاباً في المعادلة الدولية، هذا التحالف أصيب بنكسة من جراء احداث روسيا وبدت الصين ذات نظرة جديدة إليه وخاصة بعد زيارة وزير الخارجية الأميركي بلينكن إلى بكين. لقد بات واضحاً لدى الدولتين اللتين لديهما أكبر اقتصادين في العالم: الولايات المتحدة والصين، أنّ عليهما التعاون والتفاهم لإرساء عالم جديد في القرن الواحد والعشرين.
– النتيجة الثالثة تتعلق بنوعية وطبيعة الإيديولوجية التي تحكم المجتمعات البشرية بما فيها المجتمع الروسي وهي ضرورة التفريق بين الايديولوجيات ذات الخلفية الفكرية العقائدية (كالماركسية والقومية…)، وبين الإيديولوجيا ذات الخلفية المادية النفعية ذلك أنّ عقائد الشعوب لا تشترى بالدولار، ولكن بطون الجائعين تحتاج إلى الدولار! … إنّ روسيا واقعة اليوم بين منطق السلطة الإيديولوجية ومنطق السلطة الميليشيوية!!!