الرئيس تمام سلام… عَلَمٌ مشرقٌ بين رجالات هذه البلاد، مشرقٌ «بآدميته» وهو المعروف بلقب الرئيس الآدمي، ومشرقٌ بالإرث الحافل الذي آل إليه وتشرّبه بالتدريج منذ نشأته في ذلك البيت العريق، بيت والده الرئيس صائب سلام وهو مقر تاريخي لزعيم لبناني – بيروتي كان له دوره في حالات السلم والحرب، وقد كان في ما كانه، زعيما لثورة 1958، كما كان قائدا وطنيا شاملا لطالما كانت له أيادٍ بيضاء في ترميم الثغرات التي كثيرا ما طاولت سلامة الوحدة الوطنية، ومسيرتها باتجاه إطلاق شعار، لا غالب ولا مغلوب.
من هذه الأجواء قَدِمَ الرئيس سلام إلى مواقع القيادة الوطنية والسياسية، وكان وما يزال يجسّد ركيزة أساسية من ركائز المجتمع الإسلامي السني، عموما، والمجتمع البيروتي على وجه الخصوص، وقد تمثل هذان المجتمعان على مرّ الحقبات الزمنية التي تولّت مقاليد الحكم في لبنان، بجملة من رؤساء الوزارات، ذكرنا منهم الرئيس صائب سلام والرئيس تمام سلام، ونضيف إليهما زعيمين آخرين عرَفْتهُما الساحةُ الوطنية، يتمثلان بالشهيد الرئيس رفيق الحريري ومن بعده الرئيس سعد الحريري، دون أن ننسى عَلَما وطنيا تاريخيا كان له دوره الرّيادي في نشأة هذا الوطن وتحقيق استقلاله وهو الزعيم الوطني التاريخي رياض الصلح.
هذه هي البيئة الميثاقية العريقة التي انطلق منها هؤلاء الزعماء، المشهود لهم بوطنيتهم وكفاءاتهم وإخلاصهم للبنانهم وعروبتهم، ولدولتهم السيدة الحرة والمستقلة.
نذكر هذه العجالة التاريخية لنخلص منها إلى أن هؤلاء جميعا، لطالما واكبْتهُم أحداثُ ومواقفُ المواجهة والمجابهة، ولطالما تعرّضوا لكثيرٍ من التحديات والإفتراءات، إلاّ أن من سنتناوله من خلال افتراءات هذه الأيام وأكاذيبها واستهدافاتها السياسية المغرضة بكلام محقّ وصادق وعادل يتمثل بالرئيس تمام سلام، الذي تولّى السلطة في لبنان في أدق وأحلك الأوقات والظروف فكان بديلا لرئيس جمهورية استمر تعطيل انتخابه لمدة زادت عن السنتين، وكان ذلك نتيجة لأوضاع مؤسفة سادت البلاد، متمثلة على وجه الخصوص، في سعي البعض إلى وضع يدهم على هذا الوطن، بإرادتهم المنفردة وقراراتهم المرتبطة بالخارج الإقليمي، قريبه المجاور، وبعيدِهِ المتصل اتصالا عضويا بإيران وسياسة الحرس الثوري، وبدلا من أن تكون هذه الحكومة إنتقالية تربط لوقت جدّ محدود بين رئاستي عهد سابق وعهد لاحق، إذا بها وقد تسمّرت في الحكم، وبات المؤقتُ شبهَ دائم، وحُكِمتِ البلاد وسط ظروف الضغط والإكراه المسلّح وتجميد أوضاعها على درجة الصفر، وتم تركيبها في إطارٍ أطبق عليه الخلل والشلل من كل جانب، وبناء على اصرار بعض الفرقاء، أصبح كل وزير «رئيسا» صغيرا للحكومة، يكفي أن يعترض واحد منهم على قرار يصدره مجلس الوزراء، لتعطيله ومنعه من الصدور، دون أن ننسى بالطبع تلك التشنجات والمطبّات والموانع التي كانت تضع في وجهه شتّى أنواع الحواجز، وخلّفتْ تطورات الأوضاع الداعشية من خلال تلك الموجات الإجرامية التي دُفِعَ بها من الجانب السوري إلى جرود عرسال وما حولها، وحفلت الأجواء بتصرفات تآمرية طاولت سلامة العلاقات الإسلامية من خلال الحَقْنِ الشديد في مواقع مذهبية إلى درجة كادت أن تنطلق منها، الفتنة التي هي أشدّ من القتل، وهي لم تقع ولم تتمدد بسبب وطنية وإسلامية تمّام سلام الواعية والمصممة على حماية الوطن من كثافة المحاولات التحريضية وسوء تصرفاتها. ولن نخوض في تفاصيل تطورات تلك الأيام السوداء التي لطالما عبقت بالرياح العاصفة والسواد القاتم والتي تمثلت خاصة في خطف ثُلةٍ من الجنود الأبطال الذين تمّتْ تصفيتهم بعد مرور عام على اختطافهم، وإذا كان كثيرون قد طالبوا آنذاك بالتفاوض مع الدواعش على إطلاق سراحهم، فقد كان فريق آخر يمانع في إجراء مثل هذه المفاوضة التي قيل آنذاك أنها تصرّفٌ مرذول لا تسمح به كرامة الدولة ولا مصالحها، بينما أسفرت الأيام وممانعة الممانعين عن استشهاد الجنود المخطوفين عن طريق إعدامهم من قبل الدواعش، كما أسفرت عن منع الجيش اللبناني البطل من استكمال انتصاراته السريعة وقوفا بها عند مرحلة الإنهاء في مربعها العسكري الأخير، وترك المجال فسيحا من قبل دويلة الحزب أمام الداعشيين والنصراويين للإنتقال بهم بباصات مبردة إلى مواقع اختيرت لهم، دونما أية مراعاة لأوضاع الدولة اللبنانية وكرامتها وسيادتها، ودونما أي اعتبار لكون هؤلاء الذين يطالبون بحفظ حياتهم قد قَتَلوا ثُلّةً من جنودنا الأشاوس وهم في حالة الأسر التي ترعاها جملة من الأحكام القانونية والشرعية، فإذا بها فجأة هباء لا وجود له ولا أثر، وإذا بنا مجددا أمام جملة من النتائج المأساوية، ولعل أغرب وأعجب ما فيها هي تلك الهجمة على أفاضل الناس وأخلصهم للمصالح الوطنية المجرّدة، وفي رأس قائمتهم الرئيس تمام سلام الذي لطالما فكّر وهمّ إلى الإستقالة من تلك الحكومة التي بنيت على الفراغ الرئاسي، ولولا فائض من الحكمة والفكر الواعي والصائب، لكان الرئيس «المعذّب» قد اتخذ قراره بترك الجمر من بين يديه لحملها عنه، من أصحاب الشأن الأساسي، الوطن والمواطنين الذين شاءت الظروف أن يكونوا محكومين بدولة وبدويلة، وأن تنقلب المقاييس فيصبح المدانون الذين يخترعون الوقائع ويسمونها حقائق وهي في واقعها، كذب وافتراء على الحقيقة وتصميم على إزكاء متطلبات تحقيق الفتنة المذهبية الكبرى وإذا بالإتهامات المفبركة تنهمر على الأبرياء والحكماء أمثال الرئيس سلام والعماد قهوجي، وتتطور لتلامس رئيس الوزراء الحالي سعد الحريري الذي لولا مبادراته الشجاعة، لكنا لا نزال في مطبّ آخر، سحيق العمق، يكون الوطن فيه قائما ومستمرا أو لا يكون. وربما ما ذهب إليه فخامة الرئيس عون بإحالته القضية إلى التحقيق القضائي، مدخل مبدئي معقول، ولعل ما طالب به الرئيس سلام سواء لجهة الكشف عن محاضر جلسات مجلس الوزراء المسجلة صوتا وكتابة، يمثل موقفا هاما يقتضي أن يوضع في موقع التنفيذ الشفاف والعادل، ولعل ما ذهب إليه رئيس القوات اللبنانية في كلمته التي ألقيت في ذكرى شهدائها يمثل وجهة أخرى مؤداها أن كل تحقيق يجري يجب أن يكون دون إغفال للجزء الأساسي الذي يتمثل في الكشف عن الجهة التي عملت على تهريب داعش وتخليصها من قبضة الدولة، وهنا بيت القصيد.
ولعل في دعوة الرئيس الحريري للكف عن المزايدات وإطلاق الكلام في الهواء، متمنيا على الجميع، أن يلعبوا دورا إيجابيا في الإنتصار الذي أنجزه الجيش، فحرام أن يضيع هذا الإنجاز منقلبا إلى تبادل التهم، لعل في هذه الصيحة التي أطلقها الشيخ سعد، خاتمة مناسبة لهذه الكلمة مع إضافةٍ للقول المأثور: الفتنة نائمة، لعن الله من يوقظها.