عندما أطلق الرئيس صائب سلام شعار: لبنان واحد لا لبنانان في أعقاب إحدى المِحنِ الغابرة، فقد كان يعني: لبنان المسلم ولبنان المسيحي.
ومع أنّ هذين اللّبنانَيْنِ تعايشا منذ سنة 1940 على التقاتل والتوافق، يتصارعان ويتصالحان، فإنّ المشكلة المسيحية – الإسلامية يروّضها الزمن مع إدراك حقيقة رسالة أديان اللـه تعالى إلى المؤمنين، وإدراك حقيقة رسالة لبنان تعالى إلى العالمين.
ولكن، هناك مؤشّرات مخيفة تظهر حيناً وتتبطَّنُ حيناً آخـر، كأنَّها ترسم وجهاً للبنانَيْنِ متناقضَيْنِ بتصادمٍ تاريخي.
لبنان: التاريخ والحضارة والرسالة والديمقراطية والحرية والثقافة والتمدّن والرقيّ والترقّي وحقوق الإنسان.
ولبنان التخلّف والرجعية والتقهقر والقرون الوسطى، والعصر الجاهلي، ووأْدِ البنات وسبْـيِ النساء، والقبيلة تغـزو القبيلة.
إنها ارتدادات تاريخية تنكفيءُ ببعض الأنظمة إلى فلسفة الديكتاتوريات التي انتقلت معها الشعوب إلى أخدارِ: ستالين وموسوليني وهتلر، قبل أنْ تنتقل إلى أخدارِ الله.
وهكذا كان حقُّ الملوك بالتفويض الإلهي حيث كانت السلطة تقوم على شريعة السيف، أمّـا حـقُّ الشعوب فيتأرجح بين المباخر والمقابر.
في المعادلة يبدو المشهد:
أنظمـة ديكتاتورية تفتكُ بشعوبها قتلاّ وقمْعاً وتشريداً، وأنظمة ديمقراطية تؤَّمـن الأكفان للضحايا والغذاء والكساء للمشردين.
في أي مشهدٍ تبدو صورة لبنان اليوم…؟
هل هو مشهد الديمقراطيات أو الديكتاتوريات…؟
هل هو لبنان الحـر المستقلِّ والجمهورية الديمقراطية البرلمانية…؟
وأين هي البرلمانية فيهِ وقد أصبحت تعني الفراغات واغتيال الدستور…؟
وأين الديمقراطية التي تعني العـدل والمساواة، والحرية الفردية وكرامة الإنسان، والشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة…؟
إننا نعيش في نظام إسمُـه ديمقراطي، ويحمل كلَّ عاهات النظام الديكتاتوري، حتى إنّ الحكم الديكتاتوري الجائر يظلُّ أفضلَ من حكم اللاّدولة واللاّسلطة واللاّمسؤولية واللاّنظام.
منذ أنْ بـدأ تداولُ السلطة في لبنان يتهاوى في أعماق الفراغات، فتعطَّلت مسيرةُ الحكم وشرعية الدولة وتساقطت المؤسسات واحدةً تلـوَ الأخرى، راح لبنان يفقد كلَّ مفاهيم الدولة ويتّجـه إلى ما يشبه النظام الفوضوي المتفلّت، والفوضى في المصطلح الفلسفي هي مذهب سياسي يدعو إلى إلغاء مسؤولية الدولة والتنكّر لضرورة وجودها.
لعلّ أفضل وصـف لواقع الحكم عندنا، هو ما جاء في رواية الكاتب الروسي «دوستويفسكي» «الضحية والجلاّد» حيث البطَلُ واحدٌ في شخصية مزدوجة يتصارع فيها الخيـرُ والشرُّ ، وكلُّ واحد يحاول القضاء على الآخر.
أيّ لبنان تريدون…؟
قولوا لنا: على مثال أيِّ نظام تريدون لبنان أنْ يكون…؟
على صورة أيّ دولة..؟ سمّوها لنا إنْ كنتمْ تجرؤون..؟
لا.. ليس لبنان الذي خاض مع التاريخ صراعاً ضاريّاً ضـدّ ما يزيد على عشرين دولة وأمبراطورية وديكتاتورية، سيخرج من كيانه التاريخي، بل سيظل هو حضارة التاريخ.
إمّا أنْ يكون هكذا، أوْ لا يكون.