لم يسبق للمراجع السياسية والدستورية والديبلوماسية أن التقت على قراءة شبه موحّدة للوضع في لبنان كما في الفترة الأخيرة، فقد استشعر الجميع أنّ البلد يعيش مرحلة من المخاض الذي يمكن أن يقود الى ما لم يتوقعه أحد بعد. فالطريق الى ارتطامٍ ما، باتَ معبّداً بكل المؤشرات السلبية في ظل غياب أي مبادرة تضع حداً لما يجري. وعليه، ما الذي يقود الى هذه المعادلة؟
لم يكن الأمر متعلقاً بمصير المبادرة التي يقودها الموفد الشخصي الرئاسي الفرنسي تجاه لبنان الوزير السابق جان ايف لودريان عندما التقت شخصيات سياسية وديبلوماسية ودستورية على قراءة المشهد السياسي في لبنان نتيجة المخاض الذي يعيشه الاستحقاق الدستوري. فالمخاطر تهدّد الخطوات الاولى المؤدية الى تقصير مهلة خلو سدة الرئاسة من شاغلها والتفاهم على الآلية التي يمكن أن تُفضي الى جلسة نيابية لانتخاب الرئيس العتيد للجمهورية، تمهيداً للانطلاق بورشة العمل الطبيعية المؤدية الى إعادة بناء الدولة ومؤسساتها. وإنّ خريطة الطريق هذه لا يمكن ولوجها قبل اكتمال عقد السلطات الدستورية والتزام رؤسائها بأصول التعاطي في ما بينهم لإحياء مشروع الدولة وإقفال مسارب الهدر والشلل والفشل الذي بات يهدّد مختلف القطاعات ووجوه الحياة في لبنان.
على هذه الخلفيات، تعمّق النقاش بين مجموعة من رجال القانون والدستور ومعهم اعلاميون استعان بهم مرجع ديبلوماسي من اجل التشاور في ما يمكن القيام به لنقل البلاد من حيث هي إلى ما يمكن أن يُحيي الأمل في استعادة السلطات والمؤسسات الدستورية أدوارها الطبيعية. مشددا على أهمية تحديد الآليات التي يمكن اللجوء اليها لدفع المسؤولين اللبنانيين، كلّ من موقعه، الى القيام بما هو مطلوب اذا أرادوا فعلاً رؤية ما ينادون به ليبقى للبنان الدولة والكيان مَوقع بين دول المنطقة والعالم. وليستعيد الثقة المفقودة من الداخل والخارج بكل ما تتصِف به الدولة من مقومات اقتصادية ومالية وإدارية وحكومية وأمنية وديبلوماسية وخدماتية، ولتبقى ملجأ لأبنائها ومن يرغب بالعيش فيها لأيّ غرض كان.
قال الديبلوماسي في بداية الأمر انّ العالم جاد في مساعدة اللبنانيين على تجاوز مجموعة الازمات التي عصفت بالبلاد طوال السنوات الماضية، ولا سيما منها المالية والنقدية التي طفت على سطح الأحداث في غفلة من الزمن على من لم يشأ الاضطلاع بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه في أكثر من موقع وإدارة وقطاع. الى أن تناسلت الازمات وتشابكت على وَقع أزمات صحية وبيئية عالمية أقفلت كل أشكال التواصل وقنواته بين القارات والدول، والتي انقاد بسببها قادة العالم الى خوض مواجهات عكست احتقانا دوليا غير مسبوق عبرت عنه مجموعة من الأزمات الدولية التي تفجّرت على خلفية النزاعات بين الأحلاف الكبرى والتي جَنّدت لها مختلف أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية بما فيها تلك الاقتصادية والنفطية والمالية والديبلوماسية التي تحولت أكثر فاعلية وخطورة من الحروب التي عرفها العالم من قبل، على رغم من استمرار السباق نحو مزيد من التسلح وتخصيص نسب كبيرة من موازنات الدول ومواردها لهذه الأغراض.
وبعد الغوص في كثير من التفاصيل التي لا مجال للتوسع بها، وضع الوطن الصغير على خط الزلازل الكبيرة التي ضربت المنطقة منذ عقدين، وخصوصاً تلك التي بدأت بما سُمّي الربيع العربي وصولاً الى الأزمات المتفجرة من تونس ومصر الى العراق فسوريا واليمن وما شهدته بلدان أخرى كانت على تماس مع هذه الاستحقاقات الخطيرة وقد انخرطت في أحداثها. كان ذلك قبل ان ينفجر النزاع دولياً في اوكرانيا تَزامناً مع مجموعة الأزمات في بحر الصين وتايوان وكوريا الشمالية، فتعزّز الفرز العالمي بين حلفين كبيرين وحالت تردداته الكبرى التي يمكن وصفها بأنها «الحرب العالمية الثالثة» من دون ولادة أي «حلف ثالث» يمكن ان يؤدي دورا حياديا في مرحلة هي الادق والاكثر خطورة بعدما خصصت لها القدرات الهائلة المختلفة لتنعكس باستخدامها ما انتهت اليه من مظاهر أزمات غذائية ونفطية عالمية عَمّت مختلف القارات.
وانطلاقاً من هذه النظرة الشمولية للتحركات الدولية كان لبنان حتى اندلاع الازمة السورية يعيش مرحلة من الاستقرار الهَش على وَقع نوع من الحياد الايجابي عَبّر عنه «إعلان بعبدا» على رغم مما تركته جريمة 14 شباط 2005 من حركة زلزالية أمكَن استيعابها بتحالفات داخلية وموضوعية شجّع عليها أكثر من طرف وقوة دولية، وسط اقتناع بأنّ البلد الصغير لا يمكنه ان يتحمّل ترددات ما يجري قبل ان تنخرط بعض قواه في أزمات المنطقة فحمّلوه ما لا يحمل من تداعياتها فانهارت مقومات الصمود واحدة بعد أخرى، وزادت من نكباته جائحة كورونا ونكبة تفجير مرفأ بيروت فاختلطت الأزمات المالية والنقدية مع الامنية والاقتصادية وتحول ساحة مُلحقة بالساحات الملتهبة في المنطقة.
أمام هذه الصورة السوداوية للمنطقة لم يتوقف أيّ من المسؤولين عن سياسة النكد السياسي والمناكفات على أنواعها، فانخرطت القوى السياسية في تجاذبات داخلية أفقدت البلد كل أشكال المناعة. فانهارت قطاعاته الحيوية والحياتية واحدة بعد اخرى الى ان شلّت مظاهر الدولة، ولو بلغت المؤسسات الأمنية والعسكرية لانهار كل شيء فيه ولشهدنا على ما سمّي الارتطام الكبير الذي ما زال موضع شك باحتمال بلوغه ما لم يُسارع اللبنانيون الى تنفيذ خريطة الطريق المؤدية الى اكتمال عقد المؤسسات الدستورية بانتخاب الرئيس العتيد للجمهورية قبل البحث عن حلول فاشلة لأزمات متناسلة لا قدرة لأهل البيت على تطويق او إنهاء ايّ منها، في ظل فقدان الموارد المالية والإقتصادية التي تسببت بها عمليات تهريب الرساميل الكبرى الى الخارج الى درجة شَحّت فيها العملات الصعبة، فتلاقت مظاهر انهيار القطاع المصرفي مع فقدان الرعاية الدولية والاقليمية التي بلغت مرحلة الحصار الذي استدرَجته بعض القوى نتيجة تَمدّدها خارج الجغرافيا اللبنانية وادّعاء الأدوار العالمية التي لا قدرة للبلد على تَحمّل نتائجها.
وقياساً على ما تقدم من القراءات للتطورات الإقليمية والدولية التي اجتمع من حولها المشاركون في اللقاء من ديبلوماسيين ودستوريين وناشطين وإعلاميين افتقد التقدير بما يمكن ان تؤدي اليه، خصوصاً ان بقي النقاش البيزنطي قائماً في الداخل والخارج حول مواصفات الرئيس المفقود. وإن تعددت الرؤى المتناقضة حول شخصه ودوره الى درجة باتت تهدد كل المحاولات الاقليمية والدولية الناشطة لمساعدة اللبنانيين على تجاوز المحنة الوطنية التي يعيشها اللبنانيون من دون استثناء اي منطقة او مكوّن من مكوناتها ليتساوى الجميع في التوجّه الى الطريق السريع الى جهنم في غياب مَن يُتقن دور رجال الدولة المطلوبين وقرب فقدان من يمد اليد الى اللبنانيين إن تعثّر آخرهم، وهو الموفد الفرنسي، في مهمته، سواء أدّى دوره كموفد رئاسي شخصي، او بالانابة عن «اللجنة الخماسية» التي أرسلت ما يكفي من الرسائل الى اللبنانيين للقيام بما هو مطلوب منهم من دون جدوى.