كانت لافتة شكوى فخامة رئيس الجمهورية أمام زوّاره الأسبوع الفائت أنه يُتّهم بتحويل النظام اللبناني إلى رئاسي لمجرد استعماله صلاحيّاته الدستوريّة من أجل مكافحة الفساد! ولأننا عاينّا منذ بداية الولاية الرئاسية ممارسات منحرفة لنظامنا الديموقراطي البرلماني الذي يكون فيه رئيس الجمهورية حكماً وليس طرفاً، رئيساً غير مسؤول سياسياً وغير خاضع للمساءلة، رئيساً لا يلاحق إلّا بجرم الخيانة العظمى أو لخرقه الدستور، ولأنّ الممارسات الرئاسية انحرفت نحو النظام الرئاسي وأحياناً الملكي المطلق لذلك وجدتني مضطراً إلى التذكير واللفت إلى الآتي:
1 – فتح العماد عون حرباً سنة 1988 بسبب اعتراضه على الطائف ودستوره من دون أن يحّدد النقاط التي يعترض عليها، وهو أقسم عند انتخابه اليمين على احترام دستور لم يعجبه يوماً. لذلك وعوض أن يقترح تعديلات على هذا الدستور كما تتيح له المادة 76 من الدستور التفّ على كثير من أحكامه بالممارسة مستنداً الى آراء واستشارات شوّهته وحرّفته، كما تتالت الهجمات على الدستور لتكريس بدع وهرطقات وجعلها أعرافاً تعتمد.
2 – ولولا حاجة “حزب الله” لغطاء داخلي ومسيحي بالأخّص، أمّنه له العماد عون و”التيار الوطني الحر”، لكان انضّم “حزب الله” إلى المعترضين على الممارسات الرئاسية الخارجة عن الدستور. عمليّة المقايضة هذه أطلقت يد الرئيس وصهره في الداخل مقابل ضمان عدم المّس بسلاح “الحزب” والدفاع عنه أمام كلّ المنتديات العربية والدولية. وما التأكيد على مقايضة المصالح سوى ما شاهده اللبنانيون حديثاً من هرج ومرج على الشاشات بسبب معمل سلعاتا، تمثّل بانتقاد بعض نواب التيار العوني سلاح “حزب الله”، ما استدعى الردّ القوي من المفتي أحمد قبلان في خطبة عيد الفطر، الذي لوّح “بفرط” التركيبة التي قام عليها لبنان منذ تأسيسه…
3 – أما آخر مخالفة للدستور قامت بها رئاسة الجمهورية فتلك التي طالت مرسوم التشكيلات القضائية الذي يشكّل إقرارها حاجة ماسّة لإعادة بعض الثقة باستقلاليّة القضاء وبإمكانية التصدّي فعلاً لا قولاً للفساد… حيث قام لاعبون من الفريق المحسوب على رئيس الجمهورية من وزراء ومستشارين بعرقلة سير مرسوم التشكيلات، عبر فصله إلى مرسومين وهيّأوا لرفض الرئيس إصدار المرسوم بحجّة أنّه من فئة المراسيم العادية، التي لا تعرض على مجلس الوزراء والتي لا تخضع لأحكام المادة 56 من الدستور التي تعتبر المرسوم نافذاً حكماً، إن امتنع رئيس الجمهورية عن إصداره أو عن إعادته لمجلس الوزراء ضمن مهلة 15يوماً… وبمعزل عن مناقشة موضوع الأحكام التي تخضع لها المراسيم العاديّة يجب ألّا يبقى في الأذهان أنّ لدى رئيس الجمهورية صلاحية استنسابية مطلقة بالوقوف في وجه هذه الفئة من المراسيم، لأنّه لو حصل ذلك لشكّل نقيضاً فاضحاً لدولة القانون والمؤسسات، وقرّبنا من سلطة الشخص المتفلّتة من أي مسؤولية ومحاسبة، نعم، بمعزل عن كل ذلك فإنّ صلاحيّة مجلس القضاء الأعلى في موضوع التشكيلات القضائية هي صلاحية مستمدّة من القانون، الذي ينظم عمل القضاء والذي يعطي الكلمة الفصل والكلمة الأخيرة لمجلس القضاء الأعلى في موضوع التشكيلات، وليس لأيّ جهة أو سلطة قضائيّة أو سياسية أخرى بمن فيهم رئيس الجمهورية صاحب “الصلاحية المقيّدة” في موضوع هذه التشكيلات، والذي أقسم حين تولّيه منصبه: “أحلف بالله العظيم أنّي أحترم دستور الأمّة اللبنانية وقوانينها وأحفظ استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه”. وعليه فإنّ أي تمنع رئاسي عن إصدار مرسوم التشكيلات القضائية سيكون بمثابة خرق تحاسب عنه المادة 60 من الدستور.
وبمحاولة أخرى لتدعيم امتناع رئيس الجمهورية عن إصدار مرسوم التشكيلات القضائيّة رمى بعض المستشارين آراء وتحليلات تُوصِلنا، إن اعتمدت، إلى المسّ بوجه من أوجه استقلالية القضاء وجعله سلطة تأتمر بتعليمات السلطة التنفيذية حتّى في موضوع التشكيلات القضائية. كما تُظهر هذه الآراء والاستشارات أنّ مجلس القضاء الأعلى مخطئ وواهمٌ بالنسبة لحدود صلاحياته وأنّه عليه العودة إلى كتاب رئيس الجمهورية تاريخ 9 الجاري كي يستفيد منه وينهل علماً…! وأنّ على الرئيس سهيل عبود ربّما أن يستقيل!
لقد آن الأوان أن يحدّد الرئيس عون موقفه من الدستور ومن مستشاريه، لأنّ من أوحى له أنّ باستطاعته التوّسع بالصلاحيات الرئاسية عبر الممارسة وعبر تكريس أعراف جديدة، وعبر “الإقدام حيث الإتاحة” وعبر “إقتحام كلّ مساحة رمادية في الدستور” وعبر “استنباط الصلاحيات بالحدود القصوى”، إنّما يدعوه إلى تسديد ضربة جديدة إلى الجمهورية التي أقسم يميناً على حماية دستورها وقوانينها…
كما آن لمجلس النواب أن يتصدّى للجموح الرئاسي المتمادي في تقويض أحكام النظام البرلماني اللبناني، وفي نقله إلى نظام الشخص الواحد والقائد المُلهم كما في الأنظمة العسكرية في دول العالم الثالث.