قال نائب سابق مخضرم عاصر عهوداً عدّة: لو أن زعماء موارنة فعلوا في الانتخابات الرئاسية ما يفعله بعضهم اليوم، لما كان انتخب رئيس للجمهورية إلا بعد أزمة شغور تفتح الأبواب لتدخل خارجي يتولّى حلّها لمصلحته قبل مصلحة لبنان. ذلك انه كان في إمكان الرئيس الشيخ بشارة الخوري الذي كان يمتلك أكثرية نيابية بعد إطاحة حكمه، تعطيل نصاب الجلسة لانتخاب كميل شمعون، وكان في إمكان شمعون تعطيل جلسة انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً. كما كان في إمكان أركان “الحلف الثلاثي” (شمعون، الجميل، إده) والموالين للرئيس شهاب تعطيل جلسة الانتخاب خوفاً من أن يفوز سليمان فرنجية أو الياس سركيس، خصوصاً ان المعركة كانت على صوت واحد. لكن زعماء الأمس هم غير بعض زعماء اليوم، إذ انهم كانوا يفضلون انتخاب رئيس، وإن اعتبر ضعيفاً أو سيئاً، على فراغ رئاسي يكون أسوأ لئلا يصبح تعطيل جلسات الانتخابات الرئاسية قاعدة يعتمدها كل من لا يريد رئيساً غير مقبول منه، سواء قام بذلك فريق مسيحي أو فريق مسلم، فيكون المعطلون مسؤولين عن قطع رئاس الدولة فيما سبّهم الشعب على جريمتهم هذه، فكيف إذا عطلها زعماء موارنة يعرّضون أعلى منصب ماروني في الدولة للشغور والوطن للأخطار والميثاق الوطني للخلل؟
وكان في إمكان المرشحين الموارنة الأقوياء تعطيل جلسات الانتخابات الرئاسية إذا لم يقبل نواب انتخاب مرشح وضعت هذه الدولة أو تلك “فيتو” عليه، أو ان يصروا على انتخابه رداً عليها وإلا لما كان انسحب المرشح حميد فرنجية لمنافسه كميل شمعون لأن الحكم في سوريا يومذاك تدخّل لدى نواب طرابلس كي يؤيدوا شمعون ليرجحوا كفته، ولما كان العميد ريمون إده قرر منافسة اللواء فؤاد شهاب على رئاسة الجمهورية مع علمه ان لا حظوظ له بالفوز بسبب توافق أميركي – مصري زمن عبد الناصر على دعم شهاب، إنما ليؤكد احترام لبنان للديموقراطية ولئلا يقال إن اللواء شهاب فاز في ظل الأسطول السادس الأميركي، وهي العبارة التي قالها إده في كلمته على أثر إعلان فوز شهاب، فطلب الرئيس صبري حمادة، وكان رئيساً لمجلس النواب، شطب هذه العبارة من محضر الجلسة.
ولم يكن الزعماء الموارنة في الماضي يعطلون جلسة انتخاب الرئيس إذا لم يكن المرشح للرئاسة من الأقوياء كما يفعل بعضهم اليوم، لا بل كانوا يقبلون حتى تدخل سوريا لاختيار رئيس للجمهورية على بقاء سدّة الرئاسة الأولى شاغرة حتى لو ملأها رئيس اعتبر ضعيفاً أو لا لون له ولا طعم ولا رائحة، لأن الضعيف يصبح قوياً عندما تنتخبه الأكثرية النيابية المطلوبة من المسيحيين ومن المسلمين. فأي رئيس لن يكون قوياً إلا اذا التقى على تأييده مسيحيون ومسلمون، بدليل ان الشيخ بشارة الخوري، وهو الرئيس القوي، اطاحته “ثورة بيضاء” شارك فيها المسيحيون والمسلمون، والرئيس كميل شمعون انتهى عهده بأحداث 1958 عندما حصل في نهايته خلل في التوازن الداخلي سياسياً ومذهبياً. والرئيس سليمان فرنجية، وهو القوي أيضاً، أمضى نهاية عهده خارج قصر بعبدا هرباً من القصف في حرب السنتين، وهي حرب كانت بين مسلمين ومسيحيين لأنهم اختلفوا على ان يتحول الفلسطينيون من لاجئين في لبنان الى مسلحين، والمخيمات الى ثكن ومعسكرات والى دولة داخل الدولة. واغتيل الرئيس القوي بشير الجميل وكان من أسباب اغتياله رفضه توقيع اتفاق سلام منفرد مع اسرائيل ومن دون موافقة الشريك المسلم، وشقيقه الرئيس أمين الجميل، وهو القوي أيضاً، شهد عهده “حرب إلغاء” بين “القوات اللبنانية” بقيادة الدكتور سمير جعجع والجيش بقيادة العماد ميشال عون، وكانت تلك الحرب سبباً من أسباب تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية في مؤتمر الطائف.
إن من يعطل انتخاب الرئيس بذريعة انه يريد رئيساً قوياً، يرتكب جريمة بحق لبنان. فالرئيس وإن ضعيفاً يظلّ أفضل من لا رئيس، والفراغ تظلّ نتائجه أسوأ حتى من رئيس سيئ، ذلك ان الفراغ يشلّ عمل كل المؤسسات والسلطات ويضع البلاد على حافة الانهيار. فليس من المنطق ولا من الحكمة القول إما ان يكون عون أو جعجع أو الجميل أو فرنجية رئيساً للجمهورية لأنهم وحدهم أقوياء أو لا يكون رئيس. فهذا المنطق يناقض أحكام الدستور الذي نص صراحة على أن يتم انتخاب الرئيس بالاقتراع السرّي، ومن ينال أصوات الأكثرية النيابية المطلوبة يكون رئيساً، لا أن يفرض انتخابه بمنطق القوّة أو التعطيل أو مسايرة للدلع السياسي خصوصاً وقد تجاوز حدّه. وعندما يخالف نواب أحكام الدستور بالقول إنهم يريدون فلاناً رئيساً للجمهورية، وفلاناً رئيساً للحكومة، وفلاناً قائداً للجيش، أو حتى فلاناً وزيراً وإلا فلا رئيس ولا حكومة، فلن يبقى عندئذ في لبنان دولة بل مجموعة قبائل.