كلام في السياسة |
قد يرى البعض أن لا لزوم لهذا الكلام الآن. على اعتبار أن لا جدوى سياسية أو رئاسية له تحديداً. وعلى خلفية أنه في عقلنا المكبّل بالمحرمات، كما للموت حرمة تلغي كل السيئات والموبقات والأخطاء والخطايا والآثام… كذلك للحلول وللهدنات وللاتفاقات وللتسويات حرمات مماثلة، تفرض كمّ الأفواه وابتلاع الكلام. لكن، رغم ذلك كله، ومع اعتبار كل ما يجري، والحرص على إتمامه وإنجازه، تظل للحقيقة حرمة أولى وأعلى. وهي تقضي بأن نقول ما يجب أن يقال…
ما يحصل ضمن المشهد الرئاسي في بيروت اليوم، عملية معقّدة ومدروسة ومعدّة بتأنّ وتفصيل وجهد، منذ نحو خمسة أشهر. وتحديداً منذ منتصف أيار الماضي. أهم ما فيها، انها حيكت وفق القاعدة الشرعية الشهيرة، التي ــــ للمصادفة ــــ كان يردّدها الراحل رفيق الحريري: «واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان». وسيظهر لاحقاً، أياً كانت خواتيم تلك العملية وما تبقّى من مراحلها المعدّة بالتفصيل نفسه، أن ما جرى تحصّن بعاملين اثنين بشكل أساسي: أولاً، التحرك من دون الزجّ باسم أي جهة خارجية. وثانياً، العمل ضمن سياق حل رئاسي عام، من دون ذكر اسم أي مرشح، حتى الإنجاز المضمون والمؤكّد وحتى المتيقّن. وكان واضحاً أن العاملين على خط هذا المسعى الرئاسي، لجأوا إلى هذين الضابطين، حرصاً على نجاح مهمتهم، بعدما اعتبروا من تجارب سابقة واستخلصوا دروس محاولات ماضية، انتهت إلى تعثر، لم يلبث أن تشظّى أضراراً على جهات تم توريط رعاياتها، وعلى شخصيات أعلنت أسماؤها… ولا لزوم لمزيد من تفصيل!
المهم أنه بعد ظهور المرحلة الأولى من تلك العملية، والتي تمثّلت بجولة الرئيس سعد الحريري على القيادات اللبنانية ومن ثم انتقاله إلى زيارة بعض العواصم المعنية، طفت على سطح المشهد الرئاسي حركة مقابلة معترضة. وهذا أمر طبيعي، لا بل من صلب العملية الديمقراطية. فهناك من اعترض لعدم اطّلاعه المسبق. وهناك من تحفّظ لعدم إشراكه بالكامل. وهناك من اعتبر أن في الأمر انطباع ثنائية، في تركيبة معقدة قائمة على تعددية فسيفسائية أقرب ما تكون إلى عائلات مافيات شيكاغو. وهناك من رأى في الخطوة ضرباً لحظوظه لصالح منافس. أو استبدالاً لخياره بخيار رئاسي آخر… وكل تلك الاعتراضات طبيعية ومشروعة وأكثر.
ما ليس مشروعاً ولا مقبولاً مما ظهر على سطح الطبخة، اعتراضان متقابلان، يشكل كل منهما مفارقة بينه وبين أصحابه.
الاعتراض الأول، لدى بعض القوى المفترضة على بعد مسافة مع السعودية. إذ سارعت تارة مباشرة، وطوراً عبر كل أشكال التصريح غير الصريح، إلى الغمز والهمس والتسريب، بأن خطوة الحريري غير مقرونة بموافقة سعودية. لا بل أكثر من ذلك، أن الفيتو الذي يقترن باسم ميشال عون سعودياً، لا يزال قائماً وفاعلاً وصالحاً. ولا ننسى، أن المتذرعين بتلك المقولات، من المفترضين على شبه قطيعة مع الرياض!
في المقابل، ظهر اعتراض ثان، أقل علنية، لكنه بالقدر نفسه من المفارقة ومخالفة الطبيعة السياسية. إذ سعى بعض القوى المقابلة، والمفترضة على عداء مع دمشق، إلى القول بالطرق نفسها، أن ليس صحيحاً أن حزب الله تمكن من رفع الفيتو السوري المفترض عن اسم سعد الحريري كمشروع رئيس لحكومة العهد، أو كرئيس حكومة مشروع لبداية ذلك العهد.
هكذا في لحظة من ضيق الصدر والتبرّم بالحل، ارتسمت لوحة سوريالية: خصوم السعودية يكادون يتوسلون منها فيتو رئاسياً، أو حتى يتسوّلونه. وخصوم سوريا يستدرجون منها فيتو آخر حكومياً، أو يتمنّونه. كل ذلك، لمجرد إحباط أي مشروع لأي تسوية. وهو ما يستدعي بحث المفارقتين، بالتبسيط الكامل، على طريقة «الشراية والبياعين»: طيب يا إخوان، طالما أنتم على تناقض مع السعودية، فلماذا تتذرعون بموقفها، أو حتى بفيتو منها، ضد من يفترض أن يكون من فريقكم، أو على الأقل أقرب إليكم من الرياض؟! ومن الجهة الأخرى، طالما أنتم يا إخوان الخندق المقابل، على عداء مع سوريا، فكيف تتلطّون خلف فيتو سوري، وتحاججون وتحتجون بأن دمشق لم تعط كلمتها بعد، ضد من هو منكم؟! فيما المنطق السليم، كان يفترض العكس تماماً. فالسويّة في التفكير والتصرف والسلوك لما فيه المصلحة العامة، كان يفترض، أولاً، أن يثمّن البعيدون عن السعودية، شجاعة الحريري وحكمته في معالجة الموقف، وإمرار مشروع التسوية بسلاسة واحترام. وأن يلاقي أعداء سوريا بالمنطق نفسه، كلام السيد حسن نصرالله، بالتثمين والتقدير ذاتيهما، لكونه أقدم على مصالحة حريرية حكومية، بمعزل عن أي اعتبارات مغايرة، سورية أو إيرانية أو غيرها.
لا بل المنطق الوطني العام، كان يقتضي، لو لم يكن كذلك، أن =يرفض أولئك الفيتو السعودي المزعوم على هذا المرشح، وأن يندد هؤلاء بأي تدخل سوري في شأن لبناني، فكيف إذا كان آلية اختيار رئيس حكومة لبنان؟! ذلك أن طرفي الفيتوين الاثنين المتوسلين، أو المتسولين، هما من أصحاب الزجليات السيادية منذ عقد على الأقل. فكيف عادا فجأة إلى حرفة تحييك الوصاية، ضد أي مشروع تسوية ميثاقية؟!
أياً كانت نتائج ما يجري اليوم، تظل للحقيقة حرمة. ويظل واجباً قولها والشهادة.