رغم ضراوة الأزمة الاقتصادية والمالية ومخاطرها على مصير لبنان، كانت أوساط معنية وسياسية ولا تزال تعتقد انّ هذه الازمة مفتعلة في جزء كبير منها ويُعمَل يومياً على المبالغة فيها. ولكن هذه الاوساط لا تنكر وجود هذه الأزمة في الاساس والناتجة من تراكمات تلاحقت منذ العام 1992 وتتحمّل المسؤولية عنها غالبية الطبقة السياسية التي تداولت السلطة منذ ذلك الحين.
هذه الأزمة، وفي شقها المالي تحديداً، يقول قطب سياسي كبير إنها مفتعلة في جانب كبير منها ومُدارَة بواسطة جهات داخلية وخارجية تلاقت مصالحها السياسية والمالية أيضاً على تأجيجها، وانّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يملك مجموعة مفاتيح لمعالجتها، ولكنه يُحجم، أو ممنوع عليه استخدام هذه المفاتيح حتى إشعار آخر، خصوصاً انّ مدبّري الازمة ومديريها لم يحققوا بعد الاهداف السياسية قبل الاقتصادية والمالية المرجوّة منها.
ولذلك، وفي غياب البديل لحكومة الرئيس حسان دياب التي سَمّت نفسها «حكومة واجهة التحديات»، فإن لا خيار أمام مؤيدي هذه الحكومة ومعارضيها على حد سواء سوى مساعدتها على اتخاذ ما أمكن من الخيارات والاجراءات التي تلجم الازمة على الاقل، فهي قد لا تتمكن سريعاً من معالجتها، ولكن المطلوب بداية منها هو ان تلجمها وتعالج ما أمكن بما يعيد الاوضاع الاقتصادية والمالية الى توازنها ولو بالحد الأدنى، في انتظار توافر المعالجات الناجعة.
ويعتقد كثيرون في هذا المجال انّ سقوط او إسقاط حكومة دياب، في حال حصوله قبل أن تضع الأزمة على سكة الحل، ستكون له عواقب وخيمة لأنه سيكون من الصعب تأليف حكومة بديلة، ولذا المطلوب من «حكومة مواجهة التحديات» التي تضع البنى التحتية وبعض البنى الفوقية معالجة الازمة الاقتصادية والمالية المستفحلة حالياً.
ويخطئ من يظن، يقول القطب السياسي البارز، انّ البلاد ستعود الى نمط الحكومات السابقة من حيث رؤسائها ووزرائها في حال سقوط حكومة دياب، فما كان قبل انتفاضة 17 تشرين الاول لم يعد يصح بعده على كل المستويات، فالطبقة السياسية بغالبيتها التي حكمت البلاد منذ التوصّل الى «اتفاق الطائف» الى الآن، فقدت صدقيتها وتوازنها وعبثاً تحاول استجماع صفوفها او الدخول في اصطفافات جديدة والسعي لكسب الثقة الشعبية، لأنّ الشعب الذي يعبّر عنه الحراك الشعبي في شقه البعيد عن الجهات الداخلية والخارجية التي تحاول ركوب موجته، باتَ لديه من الجرأة والقوة ما يمكّنه من منع عودة البلاد الى ما قبل 17 تشرين الاول.
وفي رأي هذا القطب، إنّ اولى ضحايا مرحلة ما بعد 17 تشرين الاول هو نادي رؤساء الحكومة السابقين، حيث سقط هذا النادي لينشأ النادي الجديد الذي بدأ بحسان دياب ليأتي بعده آخرون لاحقاً، سواء نجح أو أخفق. فبعد اليوم لن يتولى رئاسة الحكومة إلّا شخصية جديدة من خارج نادي رؤساء الحكومة التقليدي، وانّ محاولات بعض اعضاء هذا النادي لاستمالة الحراك الشعبي او التماهي معه، لن تنجح، لأنه بشعاره «كلّن يعني كلّن» يشمل كل رؤساء الحكومة السابقين، ويعتبرهم جزءاً من الطبقة السياسية التي أوصلت البلاد الى ما هي فيه الآن على كل المستويات.
بيد أنّ أخطر ما سيُسيء الى عمل الحكومة، وقد يمنع نجاحها في لجم الازمة واستعادة ثقة اللبنانيين والثقة العربية والدولية، هو انّ معركة انتخابات رئاسة الجمهورية قد فتحت الآن بقوة، مع العلم انها كانت فتحت منذ الاشهر الاولى لولاية الرئيس ميشال عون على يد رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل بالدرجة الاولى، ثم على يد بعض منافسيه بالدرجة الثانية، ما قد يجعل ما تبقّى من الولاية الرئاسية الراهنة أشبه بمرحلة تصريف أعمال.
وفي رأي القطب نفسه، انّ الرئيس سعد الحريري أصاب في توصيفه عندما قال انه كان يتعامل مع رئيسين، «رئيس أصل» هو عون و»رئيس ظل» هو باسيل الذي أدّى دوراً يتجاوز دوره كرئيس اكبر كتلة نيابية، حيث اختبأ خلف صفته النيابية الكبيرة ليمارس فعلاً دور «رئيس الظل». لكنّ الحريري في المقابل لم يساعد عون على لجم باسيل، لأنه قدّم مصلحته الخاصة في السلطة على مصلحة التعاون والانسجام الواجب الوجود بينه وبين رئيس الجمهورية، فكل اهتمامه كان أن يضمن بقاءه في رئاسة الحكومة طوال عهد عون، ولكنه ربما يكون أخطأ في الاعتقاد انّ التعامل مع «رئيس الظل» باسيل والرهان عليه يضمن له البقاء في رئاسة الحكومة، ولكن مثل هذا البقاء لا يمكن أحد غير عون ان يؤمّنه له، خصوصاً اذا كان التعاون بينهما مثمراً. فلو كان الحريري تعاونَ فعليّاً مع عون انطلاقاً من التسوية التي جاءت بهما الى السلطة، لكان ذلك أفضل له من الذهاب بعيداً في العلاقة مع جبران الذي اتّضح أنه لا يأمَن جانب الحريري في سَعيه الى خلافة عون في رئاسة الجمهورية.
ويعتقد البعض انّ خطاب الحريري في ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري، بمقدار ما نعى «التسوية الرئاسية» بمقدار ما أكد انها ما تزال باقية. لكن الحريري، وحتى الذين ما يزالون يعتقدون بأنّ هذه التسوية لم تَمت، لم يدركوا بعد انها ماتت لحظة استقالة الحريري بعد ايام من انطلاق الحراك الشعبي في 17 تشرين الاول الماضي.
وبالتالي، لم تعد هذه التسوية صالحة للاستعمال بعده، إذ على رغم انّ الحريري حرص على التأكيد انّ استقالته جاءت استجابة لمطلب الحراك الشعبي، فإنّ بعض نشطاء هذا الحراك كانوا يشتبكون مع محازبين من تيار «المستقبل» في ساحة الشهداء ويطلقون هتافات ضده أثناء إلقائه خطابه في «بيت الوسط»، علماً انّ الحراك لم يسقط أيّاً من عناصر الطبقة السياسية، بمن فيهم الحريري من شعاره «كلّن يعني كلّن»، والجميع يتذكر بعض التظاهرات التي قصدت «بيت الوسط» في الاشهر الاخيرة.
ويرى البعض انّ الحريري لم ينجح في شَد العصب الذي طمح اليه من خلال احتفال «بيت الوسط» والمواقف التي أطلقها خلاله، بل انّ بعض خصومه داخل بيئته وخارجها وجدوا انّ ما قاله يصلح لِما قبل 17 تشرين الاول ولا يصلح لِما بعده، حيث لم يعد للطبقة السياسية التي هو منها من سطوة على الواقع وفي إمكانها تبديد الحراك مثلما بدّدت حراكات سابقة متشابهة.
ولذلك سيكون الحريري، كما غيره من الافرقاء، ملزماً بمُماشاة الحكومة، او على الاقل عدم المشاغبة عليها أو عرقلة عملها. فهي ان لم «تشيل الزير من البير»، فإنها في الحد الادنى وفي إطار التأسيس للمعالجة المالية والاقتصادية، ستنجح في جدولة الديون العامة وهيكلتها بما يمكنها من تأجيل دفع استحقاقات سندات اليوروبوند في آذار ونيسان وحزيران من السنة الجارية. أمّا موضوع إجراء انتخابات مبكّرة فإنه لن يكون بالأمر السهل، خصوصاً إذا كان المُراد إجراء هذه الانتخابات على أساس قانون انتخابي جديد وليس على أساس القانون الحالي، لأنه سيكون من الصعوبة بمكان الاتفاق على قانون جديد.
أمّا في حال حاولَ البعض عرقلة الحكومة بقصد إسقاطها للاتيان بحكومة جديدة تتولى الطبقة السياسية، المتهمة بالفساد والارتكابات والتسبب بالازمات، توليدها واختيار رئيسها، فإنّ ذلك لن يحصل لأنّ الزمن تخطى تلك الطبقة ولم يعد في مقدورها مواجهة اللبنانيين الغارقين في أزمة مالية واقتصادية تهددهم بمجاعة حقيقية، خصوصاً في حال تبيّن انّ ودائع الناس تبخّرت او لن تعاد في وقت قريب لأصحابها من صغار الكسبة الى كبارهم الذين تَساووا في مصيبة الاذلال على أبواب المصارف.