لبنانُ لم يكُن مارونيًّا ولن يكون، ولم يَكُن سُنِّيًا ولن يكون، ولم يكُن شِيعيًّا ولن يكون؛ ولُبنان ما كان يوماً فرنسيًّا ولن يكون، ولا سُعودِيًّاً ولن يكون، ولا فارِسِيَّاً ولن يكون، لبنانُ مُنذُ نشأتِهِ كان وَسيبقى، عَرَبيَّ الهَويَّةِ عالَمِيَّ الثَّقافَةِ وطناً جامِعاً لكُلِّ أبنائه المُقيمين والمُهاجِرين. لقد آن الأوانُ لأهلِ الرَّبطِ والحَلِّ أن يَعوا هذه الحَقيقَةَ الرَّاسِخَةَ منذُ أن كان لبنان، والتي ستبقى إلى الأزل. ولن تُجدي نَفعاً مُحاولاتُ أيِّ مُكوِّنٍ من الُمكوِّنات اللبنانيَّة في شدِّ اللِّحافِ إلى جانبِه، لأن ذلك أدَّى وسيؤدِّي إلى مزيدٍ من التَّفسُّخاتِ في الغَطاءِ الوطني، وسيَزيدُ من عوامِلِ الفِرقةِ بين أبناءِ الوطنِ الواحِدِ المحكومين بالعَيشِ المُشتركِ وفي ظِلِّ دولةٍ واحِدةٍ مُوَحِّدَة، بعيداً عن كُلِّ أشكالِ الفِدراليَّةِ والمُؤتَمَراتِ التَّأسِيسِيَّة، وجُلَّ ما يُنصَحُ به إصلاحِيَّاً هو تَبَنِّي «لا مَركزِيَّةٍ إدارِيَّةٍ» غيرِ مَبنيَّةٍ على نزَعاتٍ تقسِيمِيَّةٍ فئويَّةٍ، يُبتغى من خلالِها تحقيقُ الانماءِ المُتوازِنِ بما يراعي خُصوصِيَّاتِ المناطِقِ الجُغرافيَّةِ اقتِصادِيًّا واجتِماعِيَّةِ وثَقافِيًّا لا جِيوطائفِيَّة.
أقولُ «أهلَ الرَّبطِ والحَلّ» لأن المَولجين في الشُّؤونِ السِّياسِيَّةِ في لبنان ليسوا بمَسؤولين «بالمَعنى السِّياسي والأخلاقي والإنساني والوَطني. وهم وإن كانوا حَريصينَ على حَملَ ألقابِ التَّفاخُرِ التي يَطيبُ لَهُم مُناداتُهُم بها، إلاَّ أنَّ توصيفاً واحِداً ينبغي إسقاطُه عند الإشارةِ إليهم، ألا وهو لَقَبُ «مَسؤول» لأن مزايا المَسؤولِيَّةِ بعيدَةً كُلَّ البُعدِ عَنهُم، وإن كان ينبغي مُساءلَتهم عن كُلِّ ما ارتكبوهُ من فظاعاتٍ بحَقِّ الوَطَن والمُواطِن، لو كانوا مَسؤولين لما أفلَسوا الدَّولةِ وشَلوا قِطاعَها العام، وباعوا الوَطنَ ونَهبوا ثَرواتِه، وهرَّبوا أموالَهُم واحتَجزوا أموالَ المُواطنين وأقفلوا في وَجهِهِم كُلَّ أسبابِ العَيشِ الكريم، وأفرَغوا الوَطَنَ من خِيرَةِ شَبابِه.
لبنانُ بحُكمِ موقِعِهِ وتنوُّعِهِ، وبِغِناه الثَّقافي َوشعبِهِ المُبدِع، ونجاحاتِ أبنائه المُنتشرينَ على امتدادِ المَعمورَة مُرشَّحٌ على الدَّوامِ لأن يكونَ بلداً مُزدَهِراً، يَتصدَّرُ اليومَ القوائمَ الدَّوليَّةَ التي تُدرِجُ الدُّولَ من حيثُ درجةِ تفشي الفسادِ والفَقرِ والمجاعَةِ فيها أو من حيث الفَشل، والتَّضَّخُمِ وانهيارِ العِملةِ الوَطنيَّة، وضَعفِ مُستوى دخلِ الفردِ، وتدني المُستوى المَعيشي، وتَراجُعِ الدّخلِ القَومي لمُستوياتٍ قياسيَّة، أو لزيادَةِ الهِجرَةِ منها وارتِفاعِ نسبَةِ النَّازِحِين فيها مُقارنةً مع عددِ سُكَّانها. كُلُّ ذلك بِسَبَبِ أداءِ المَنظومَةِ المُتحكِّمَةِ بالدَّولة، والذي حالَ دون الاستِقرارِ السِّياسي والاقتِصادي والأمني والمَعيشي، بإضاعتِها للفُرصِ المُتاحةِ للنُّهوضِ بالدَولة، كما ألقى به في آتونٍ من النِّزاعاتِ الإقليمِيَّةٍ وتسبَّبَ باصطِفافاتٍ داخِلِيَّةٍ فئويَّةٍ مَقيتَة، إلى حدٍّ أضحينا نخشى فيه افتِقادَهُ لوَجهِهِ الحَضاري، وخُصوصِيَّتِهِ البنيويَّةِ ورِسالَتِهِ التَّنوُّعِيَّةِ وهَويَّتِهِ الثَّقافيَّة.
لا نُغالي إن قُلنا أن مُشكِلَةَ لبنان في المَنظومَةِ الحاكِمَةِ بكُلِّ مُكوِّناتِها، والتي تُعزى إليها الأزماتُ التي يتَخبَّطُ فيها والتي يُعاني منها اللبنانيون، هذه المَنظومةُ المُتآلِفَةُ في ما بينها والمُتقاطِعَةِ وفقَ مَصالِحِها، والمُؤلَّفةِ من مُكوِّناتٍ مُتلوِّنةٍ طائفيًا ومَذهَبيًّا، والبَعيدَةِ كُلِّ البُعدِ عن القِيَمِ الدِّينيَّةِ والأخلِاقيَّةِ، تُبدِّلُ جِلدَها وفقَ قوانينِ الوِراثةِ العائليَّةِ لا الأطُرِ الدِّيمقراطِيَّة، وتَتَّخِذُ من طوائفِها ومذاهِبِها مَتاريسَ تَحتمي بها لتَستجيبَ لأغراضِها الفِئوَيَّةِ وأطماعِها الشَّخصيَّةِ. وتُمسِكُ بنواصي أتباعِها وتَجعَلَ منهُم حُرَّاسًا لقُصورِها ومُنتَجعاتِها وأملاكِها، وتُقَولِبُ طموحاتَهُم وفقَ مَعاييرِ الخِدمَةِ في بلاطِهَا، كُلُّ ذلكَ على حِسابِ الوَطَنِ والمُواطِنِ الذي أقنَعوهُ بالاستِعاضةِ عن هويَّتِهِ الوَطنِيَّةِ ببِطاقَةٍ طائفيَّةٍ – مَذهَبِيَّة ولو تحت سِتارٍ حِزبي.
أزمَةُ لبنان السِّياسِيَّةُ الحاليَّةُ ليست في أشخاصِ المُرشَّحينَ لرئاسَةِ الجُمهورِيَّة، إنما هي أزمَةُ ثِقَةٍ بالمُترَبِّعين على عُروشِ الطَّوائفِ والمذاهِبِ والذين يَدَّعونَ زوراً الوَطنِيَّةَ والتَّعفُّفَ المَصلَحِي. وهي تَكمُنُ في الافتِقادِ لزُعماءَ وَطنيينَ عابرين للطَّوائفِ، ولزَعيمٍ غير مُدَنَّسٍ بالغَرائزِ الفِئوِيَّةِ «طائفيَّةً كانت أم مَذهبيَّة»، وإن وجِدَ شخصٌ وطنيٌّ مَسؤولٌ من خارِجِ نادي الزُّمَرِ الحاكِمَةِ لاتَّفَقوا على إبعادِهِ عن مركزِ القَرار، ولعَمَدوا إلى تَهشيمِ صورَتِه، ولَنَعتوهُ بالخِيانةِ والعَمالَةِ والغَدرِ والتَّآمُرِ والاستِزلامِ والخُروجِ عن الدِّينِ والطَّائفَةِ والإلحاد، تجنُّباً لاطِّلاعِهِ على مَصادِرِ إثرائِهِم غير المَشروع، وخِشيَةَ كشفِ سِيئةِ أفعالِهِم، وَفَضَحِ مؤامَراتِهِم، مُقابِلَ حِرصِهِم على تَمجيدِ أنفُسِهِم باعتِبارِهِم مُنَزَّهين عن الخَطايا والرَّزايا، وإظهارِ ارتباطاتِهِم وتَوجُّهاتِهِم الخارِجِيَّةِمن قبيلِ المُقدَّساتِ، وأن جميعَ أخطاءَهُم ارتِكاباتِهِم في حَقِّ الوَطَنِ والمُواطِن مُبرَّرَةٌ ولها أسبابُها الوَجيهةُ.
أزمَةُ الثِّقَةِ، المُشارُ إليها، أضحت إشكاليَّةً قائمَةً بذاتِها، تُضافُ إلى الإشكالِيَّاتِ التي لم ينجحِ المعنيونَ ولا الوسطاءُ الدَّوليون والإقليميُّون في إيجادٍ حُلولٍ شافيةٍ لها، وإن عولِجَ بعضُها بترقيعاتٍ سَطحِيَّةٍ آنِيَّة، وهذا ما يُفسِّرُ تَفَجُّرَ الأزماتِ ذاتِها بين فَينَةِ وأخرى، وعند الاستِحقاقاتِ الوطنيَّة والدُّستوريَّة. أزمةُ الثِّقةِ أصبَحَت عَصِيَّةً على الحُلولِ في ظِلِّ الانقِساماتِ السِّياسِيَّةِ الحادَّةِ والمَواقِفِ المُتَشنِّجَةِ والتَّعنُّتِ في الإصرارِ على خَياراتٍ مُعيَّنةِ، والتي يحاولن إظهارها كمُسلَّماتٍ لا حُيودَ عنها، والتَّخاطُبِ بلهجاتٍ مُتعاليَةٍ، يُقابلُها أُخَرٌ مُزدَرِيَة إلى حدِّ الاتِّهامِ بجنونِ العَظَمَة، كُلُّ ذلك لا يُبشِّرُ بالخير، بل يوحي بمَزيدٍ من التَّعقيدِ وانسِدادِ الأُفُقِ أمامَ حُلولٍ مُرضيَة؛ وأخطَرُ ما فيها أنَّ ظاهِرَ تلك السُّلوكِيَّاتِ يوحي بأنَّها تَنِمُّ عن أحقادٍ دَفينَةٍ، تُوَلِّدُ شُعوراً بالنُّفورِ لدى مُكوِّناتِ أُخرى، كما تَتَسبَّبُ بمَزيدٍ من الانقِسامِ والتَّشرذم، وعدَمِ الإجماعٍ على الثَّوابتِ والمُسلَّماتِ الوَطَنِيَّة.
ثُنائيٌّ من لونٍ واحِدٍ، يَطيبُ لهذا الفريقِ له تصنيفُهُ في مِحورِ المُمَانعَةِ، يُبدي خَشيته من يُطعَنَ في الظَّهر، وهو المُكوِّنُ الأكثرُ تَسلُّحا، والوَحيدُ بين باقي المُكوِّناتِ الوَطَنِيَّةِ الذي يَحوزُ أسلِحَةً غيرِ إفرادِيَّةٍ، وقِوىً مُسَلَّحَةً غير نِظامِيَّةٍ، هو ذاتُهُ يدَّعي أنها تُضاهي بقُدُراتِها العسكريَّةِ والقِتاليَّةِ جيوشاً نِظامِيَّة. ومقابِلَهُ نرى تجمُّعًا لقِوى تتَظَلُّلُ تحت فيئ السِّيادَةِ الوَطنيَّة، مُعزَّزٌ بجَماعاتٍ توَصِّفُ ذاتَها ما بين قوى ثوريَّةٍ وأُخرى تَغييرِيَّة، يزعمُ هذا الفريقُ أنه ليسَ بمُستطاعِهِ المُشاركةَ في الحياةِ السِّياسِيَّةِ تحت وطأةِ السِّلاحِ الذي أسيء ويُساءُ استِعمالُه. كادَ الأمرُ أن يَختلِطَ على بَعضِ المُتابعين، فتساءلوا من هو الأحَقُّ في الخَشيةِ ومن أجدرُ بالحِماية؟؟؟ وغفلوا أن الخَطرَ الحَقيقِيَّ يَكمُنُ في الزُّمَرِ السِّياسِيَّةِ الفاسِدَة، وما تُطلِقُهُ من مَزاعِمَ مُضلِّلةٍ لذَرِّ الرَّمادِ في العيون، وتَضليلِ الرأي العامِ، إذ ليسَ من طَرَفٍ داخِلي يُريدُ فِعلاً تَجريدَ المُقاوَمَةِ من سِلاحِها، حتى وإن جاهَرَ بذلك، طالما بقيَ السِّلاحُ مُخصَّصاً حَصراً لمُقاومَةِ العَدُوِّ، ومن الجانِبِ الآخرِ لايس من طَرَفٍ يُريدُ العَبثَ في التَّوازُناتِ الدَّاخِليَّةِ القائمةِ، لفَرضِ هيمَنتِهِ على الدَّولَةِ أو على أيٍّ من مُكَوِّناتِها الأُخرى، جُلَّ ما في الأمرِ ابتغاء حَرفِ الانتِباهِ عن المَخاطِرِ الحقيقيَّةِ الماثلةِ تَعطيلِ المؤسَّساتِ الدُّستوريَّةِ وعدمِ إنجازِ الاستِحقاقاتِ الوَطنِيَّةِ المُلِحَّة في أوانها بغرضِ الابتِزاز السِّياسي.
نحن نعيشِ في دولَةٍ عصيَّةٍ على التَّصنيف، نِظامُها شبهِ عُرفي لا دُستوري، جَماهيري (جمعُ جُمهور) لا جُمهوري، كَبتي لا ليبرالي (حر)، مِلي لا برلُماني، توافُقِي لا ديمُقراطي (مَجلِسُها عشائري لا نِيابي، يَهوى الحُلولَ المُرتجَلَةِ ويأبى التَّشريعَ والمُساءلَةَ، وحُكوماتُها المُتعاقِبَةُ تَهوى القُروضَ وتستسيغُ استِجداءَ المَعوناتِ الخارِجِيَّة، وتأبى التَّنظيمَ والتَّخطيطَ والتَّطوير، مبدؤها اصرف ما في الجيبِ يأتيك ما في الغَيب، أمَّا جهازُها القَضائيُّ فمُعوَّقٌ عن تَحقيقِ العَدالةِ ومُغيَّبٌ عن مَسارِحِ الجرائمِ الخَطِرَة، ومَحظورٌ عليهِ مُلاحَقَةِ كِبارِ المُجرِمين، إلى حد يبدو وكأن دورَهُ أقرَبُ إلى الدِّفاعِ عن المُتَّهمينَ الخطرين لا مُلاحَقَتِهُم وإدانتِهِم.
نقولُ لأهلِ الرَّبطِ والحَل، أن المُشكلَةَ الحَقيقِيَّةَ تَكمُنُ فيكم، في أنانيَّتِكم، وتَخبُّطِ أدائكُم وسوءِ نواياكُم، وقُصرِ نظرِكُم، وتمسُّكِكُم في السُّلطَةِ، وعَدَمِ تَبصُّرِكُم لما يَحملُهُ المُستقبلُ من مُستجدَّات، وحِرصِكُم الزَّائدِ على تَنفيذِ الإملاءاتِ الخارِجِيَّةِ تَهرُّباً من عُقوباتٍ قد تطالَكم، والتزامكمُ صُورِيَّاً بتوجِيهاتِ البنك الدَّولي لفكِّ حجرِ التَّعامُلِ مَعَكُم، واكتِفائكُم بردَّاتِ الفِعلِ حيال الأزماتِ، ولاتِّباعِكُم سياسةَ تَمريرِ الوقت، وتَبَنِّيكم لحُلولٍ تَرقيعِيَّةِ، وافتِقادِكُم لروحِ المُبادَرَةِ وعَجزِكُم عن بلوَرَةِ حُلولٍ جَذرِيَّةٍ عَملِيَّةٍ فاعِلَة، وقبل كُلِّ ذلكَ لافقادِ لثِقَةِ المواطنين بكُم وبنَزاهَتِكُم ووطنيَّتِكُم. ورغمَ ذلكَ عتبي ليس عليكُم إنما على شَعبٍ منحكُم أصواتهُ مُكرِّساً استٍلامَهُ وخُنوعَه.