لقد طغى مفهوم النجاسة على الكياسة في الأدبيَّات السياسيَّة اللبنانيَّة، هذه حال لبنان منذ أن تمكّنت الميليشياتُ من السَّطو على السُّلطة، وتحكَّمَ أربابها بمفاصل الحياة السياسيَّة، لقد كانت السِّياسة في لبنان تقوم على حنكة مبنيَّة على التحليل والنقد البناء تُظَّهر بأسلوبٍ خطابيٍّ تنظيري واستعارات لطيفة دالَّةٍ ومُعبِّرةِ، أمَّا بعد الحرب الأهليَّة وتحوّل الأحزاب إلى ميليشيات استبدلت تلك المقارباتُ الديمقراطيَّة بالعنجهيات والعنتريَّات والابتزاز والتَّحقير والتَّهديد المُبطَّن… ومن يفهم السِّياسةَ، بأبعادها الجيوسياسيَّة والديمغرافيَّة والجغرافية والتاريخية يعي أنه تتحكَّم بمسارها الموارد البشريَّة والطبيعيَّة المتاحة وموازين القوى على السَّاحتين الدَّوليَّةِ والمحليَّة في ظل المُعطيات الراهنة والمستقبليَّة، وأنها تقوم على فن الممكن، وأنها لا تخلو من نفحةٍ فلسفيَّة متفهّمة لخصوصيَّة النوع البشري بميزاته النَّفسيَّة والاجتماعيَّة والخلقيَّة والتَّربويَّة، كما يعي أن الأدوار السياسيَّة لا تقوم على تكبير الأحجام وقلب الحقائق والتَّضليل والتعنّت العبثي إنما بالمواقف المتَّزنة المبنية على التَّسامح.
إن أخطر ما في السِّياسة هو انحراف الحُّكام لحدِّ خيانتهم للوطن، أو التَّقصير لحدِّ تقويض مقومات الدَّولة أو الظُّلمِ لحدِّ الاستبداد بالشعب، والخيانةُ لا تغتفر، والتَّقصير يستوجبُ الإقصاء والظُّلم لا ينسى، وكُلها سلوكيَّاتٌ تستوجبُ مُساءلة مزدوجة: للحكَّام على إخلالهم بواجباتهم، وللشعب لسكوته عن ارتكاباتِ الحكام وتقصيرهم عن النهوض بالدَّولة والزود عن مصالحها والتغاضي عن استباحة سيادتها ونهب ثرواتها والتنكيل بمواطنيها والتطاول على حقوقهم.
الحُكام في لبنان أعادونا بسلوكيَّاتِهم التَّسلطيَّة لمجاهل العصور القديمة وأدبياتها، بتعاملهم مع المواطنين كأرقَّاء «عبيد وإماء (جمع أمَة)» يملكونهم ويتحكمون بمصيرهم، وآخرُ ارتكاباتهم مقاربتهم لاستحقاق الانتخابات الرئاسيَّة، على أنها تجارة رقيق في أسواق النَّخاسة الدَّوليَّة والإقليميَّة، يساومون على مقايضة اقتراعهم لهذا المرشَّح أو ذاك بمنافع ومكاسب فئويَّة أو شخصيَّة أو كديون خارجيَّة مستحقَّة الإيفاء أو بتسليفٍ موقف للخارج يجنون ثماره مستقبلاً بمواقف سياسيَّة دوليَّة أو مناصب وزاريَّة؛ نعم إنهم يتعاملون مع الاستحقاق الرئاسي وكأن الرئيس العتيد منقوص الأهليَّة ممن تجوز المزايدة عليه أو مقايضته، أو كسلعة تباع وتشرى، فيستجيبون لإملاءات جهاتٍ خارجيَّةٍ يظفرُ فيها من يعرض عليهم أكبر قدر من المُغريات السياسية والماديَّة.
مشكورةٌ الدُّول التي تسعى لإنهاء الأزمة الرئاسيَّة في لبنان، لما تبذله من جهد لإنهاء الشغور الرئاسي ولو بانتخابٍ شكليٍّ لرئيس للجمهوريَّة تتقاطع عليه مَصالح الناخبين الفاعلين، وإن لم يكن انتخابه (كشخص) يجسِّدُ مصلحة وطنيَّة عليا. ولكن في المقابل ألف لعنةٍ على الحُكَّام المُستبدين، لتعاملهم مع هذا الاستحقاق بهذه الخفَّة والخساسة.
يشق على المرء، وبخاصَّة رجال القانون، مُتابعة مُستجدات استحقاق الانتخابات الرئاسيَّة، ويكادُ يُخيَّل إليه أن هذه الانتخابات المُزمعِ إجراؤها وكأنها حدثٌ يجرى للمرَّة الأولى في التَّاريخ الحديث، وكأن الناخبين الفعليين يجهدون في تحديد أصولها وآليَّاتها وتكريسها كسابقة أو عرفٍ يُقتدي به على المُستويين الدَّولي والمحلي، يتظاهرون وكأنهم منهمكون في البحث عن شخص بمزايا خارقة لم تلد النِّساء على شاكلته، وهم في حقيقة الأمر يسعون لتنصيب رقيق مطواعٍ يحرصون على تطويعِه وتركيعه قبل حفل تنصيبه، رقيقٌ يشتري فخامة المركز لقاء تنازلات سياديَّةٍ ومصالح فئويَّة أو شخصيَّة.
الناخبون المؤثرون في الانتخابات الرئاسيَّة، ممسكونَ بمفاتيح تحكُّم عن بُعد، يتحكمون من خلالها بالنُّواب الذين أتوا بهم إلى المجلس النِّيابي كدمى، يتحكمون بسلوكيَّاتهم ومواقفهم كما يتحكم الأطفال بألعابهم الإلكترونيَّة، فلا يجرؤ الأتباعُ على التَّحدُّث سوى بما يُملى عليهم المتبوعون، ولا يتَّخذون مواقف سوى بما يُشيرون إليهم. بئس النُّواب أولئك الذين سُّلبت إرادتهم، ويخنون الأمانة كل يوم ويخالفون مشيئة ناخبيهم ويتآمرون على الوطن.
نوَّاب الأمَّة، وما أكثرَ النَّوائب التي ألحقوها بالوطن والمواطن، لا تقتصر مسؤوليتهم عن الاستحقاق الرئاسي، على تقاعسهم عن انتخاب رئيس للجمهوريَّة، بل لتسببهم باستدراج التَّدخُّلات الأجنبيَّة في هذا الاستحقاق السِّيادي، ولخضوعهم للإملاءات الخارجيَّة ولخرقهم الدُّستور، وإخلالهم بواجباتهم البرلمانيَّة، وسكوتهم عن السِّياساتِ التَّعطيليَّة وضُّلوعهم في المُهاتراتِ التَّخريبيَّة – التَّدميريَّة.
صانعو السياسة في لبنان اليوم ملمّون بطبيعة المأزق الحالي الذي يتخبَّطُ فيه لبنان، وبمخاطره الكيانيَّة – الوجوديَّة، وحدَّة الأزمات التي يعاني منها المواطنون في مختلف المجالات وعلى مختلف الأصعدة، ورغم ذلك باعوا ضمائرهم، وتخلّوا عن حسَّهم الوطني، ومشاعرهم الإنسانيَّة، وانساقوا خلف غرائزهم الفئويَّة وشهواتهم الاستئثاريَّة.
صانعو السياسة في لبنان بطبيعتهم متآمرون، والغدرُ من طباعهم، وسيلتُهم البروتوكولات ومذكرات التَّفاهم والتَّحالفات الثنائيَّة التَّآمريَّة، جلّ مبتغاهم التَّفرُّد بالسُّلطة والاستفراد بالخصوم، واستضعاف باقي المُكونات الوطنيَّة، للاستئثار بأكبر قدر من المكاسب الفئويَّة أو الخاصَّة، وتقاسم المنافع مع حلفائهم؛ في الوقت الذي الوطن في أحوج ما يكون إلى سياسات نهضويَّة منفتحة وشفَّافة، وتَكاتف مُختلف المكونات الوطنيَّة.
صانعو السياسة في لبنان يعون اليوم أكثر من أي وقت مضى أن خطورة الوضع لا تحتمل المزيد من المراوغة والتَّسويف، وأن محاولاتهم التَّضليليَّة لم تعُد تنطلي حتى على البسطاء؛ ورغم ذلك ما انفكوا يمعنون بتآمرهم على الوطن، بعد أن تسبُّبوا بانهياره اقتصاديًا وإقصائه عن بيئته العربيَّة، وعزله عن المُجتمع الدَّولي، وإقحامه في نفق اصطفافات محوريَّة مظلم، وزجِّهِ في مُستنقعٍ موبوء بأزمات شائكة يصعبُ انتشاله منه.
صانعو السياسة في لبنان مدعوون لأن يعوا أن رئيس الجُمهوريَّة ليس بسلعة يساومُ عليها، ويُختلَف حول مواصفاتها، وليس بساع بريد أو مجرَّد مراقب، بل قائد يتحلى بمزايا رياديَّة ومناقبية وطنية ورقيّ أخلاقي وإنساني تجعل منه شخصاً ملهماً مُتعفُّفاً عن المادِّيَّات، ومُنزَّهاً عن الأنانيَّات ومترفعاً عن المصالح الفئويَّةِ والشَّخصيَّة، وتمكّنه من البقاء بمنأى عن الرهانات المُتهورة والمُراهَنات غير محسوبة النتائج، ويحظى باحترام مُختلف المكونات الوطنيَّة. وهم مدعوون لأن يعوا أن لبنان لم يعد يحتمل المزيد من العزلة، والانكفاء عن متابعةِ المستجدَّات على الساحتين الدَّوليَّة والإقليميَّة؛ وهم مدعوون أيضاً للإقتناع بأن الرئيس العتيد ينبغي أن يكون راقياً بكل المقاييس وفوق الشُّبهات، مترفِّعًا عن الأحقاد ولا يرضخُ للإملاءات وعصِيًّا على التَّهديدات، ووطني الهوى والهويَّة، وأخيراً ينبغي ألَّا تعتري تاريخه أيَّة شائبة سياسيَّة أو سلوكيَّة أو أخلاقيَّة، وأن سرَّ نجاحه يكمن في الحرص على البقاء على مسافة واحدة من جميع المكونات الوطنيَّة، والبعد عن سياسات اَلمحاور الدوليًّة والإقليميًّة، والعربيًّة.
صانعو السياسة في لبنان مدعوون لأن يعوا أن الرئيس العتيد هو المهيَّأ للعملِ على ترميمِ الشُّروخ السِّياسيَّةِ الوطنيَّةِ ورأبِ التَّصدُّعاتِ الدَّاخليَّة، والقادر على إعادةِ لبنان إلى طبيعته المُتجانسةِ مع بيئته العربيَّة ومساره الإقليمي التَّوفيقي وتبنّي سياسةٍ دَّوليَّةٍ مُتَّزنةٍ ومُعتدلة إقليميًّا ودوليَّا، رئيس قادر على ترميم سمعة لبنان، وإعادة بناء هيكليَّتِه البنيويَّة لدَّاخليَّة، وتكريس التَّوازنِ بين مؤسَّساته الدُّستوريَّة، وإعادة الحياة للقطاع العام وتفعيله، واستعادةِ الثِّقة بالنظام المصرفي ووضع لبنان مجددًا على مسارِ الإزدهار والنُّهوض الاقتصادي.
صنّاع السياسة في لبنان مدعوون لأن يعوا أن تسميَةَ الرئيسِ من أيَّةِ جهةٍ خارجيَّة سيكون من حيث الشَّكل بمثابةِ تعيين لا انتخاب مهما حاولوا إلباسه لبوس المشروعيَّةِ بانتخاباتِ صوريّة، وستُشكِّلُ هذه الواقعةُ إن كُرِّست عاراً عليهم، ووبالاً على لبنان. وخاصَّةً أنه ينبغي أن تجرى الإنتخابات الرئاسيَّة وفق إطار دستوري واضح المعالم، وبالآليَّة المُحدَّدَة التي لا تقبلُ التأويل.
صنّاع السياسة في لبنان مدعون لأن يعوا أن الخيارات الرئاسيَّة في ظلِّ الإصطفافات الحاليَّة مَحدودَة، لحراجة الوَضعَين الإقليمي والدَّولي، ولدقَّة الأوضاع السِّياسيَّة الدَّاخليَّة ولهشاشة الأوضاع الأمنيَّة، ولصعوبة أحوال المواطنين المعيشيَّة، ولأن مجمل المتعاطون بالسياسة قد صبغوا بألوان سياسيَّة فاقِعَة مقيتة، وأن الإتيان برئيس محسوب على مُكوِّن من المُكوِّنات، سيكون عاملاً مؤجِّجاً للانقِسامات الدَّاخلِيَّة، ومَجلبَةً لمَزيدٍ من الانكِشاف السِّياسي والمالية والعزلَة السياسيَّة، وسَبَباً للمَزيدِ من الضُّغوطاتِ الدَّوليَّةِ ورُبَّما يجعل لبنان عرِّضُهُ للمزيدِ من العقوبات الاقتصاديَّة والماليَّة. وأن المرحلة القادمَة تنطوي على كثير من التَّحديات، وستكون كسابقتها حبلى بالمفاجآت، في ظلِّ تسارع المُستجدات على السَّاحتين الدَّوليَّة والإقليميَّة، لذا المرحلة الراهنةُ تتطلَّبُ أن توكل زمامُ الأمور لأشخاص منزَّهين، ومحل للثقة لدى كافَّة الجهات المعنية والمؤثرة، وهذا يملي على النَّاخبين الفاعلين أن يبادروا إلى حصر المُرشَّحين المفترضين بقادة لم يتلوثوا بسموم الطَّائفيَّةِ والمذهبيَّة، ولم ينساقوا في اصطفافات فئويَّة أو مناطقيَّة أو إقليميَّة، واستبعاد الأسماء اِلتي لا تلقى قبولاً من المكونات الأساسيَّة من قائمة المرشَّحين، والتي ينبغي أن تحصر بأسماء أشخاص جريئين منزَّهين عن كل أشكال الفسادِ والإفساد.
ثمَّة شخصيَّتان وطنيَّتان لا تشوب مزاياهما وخصالهما أيةُ شائبة، ولا غبار عليهما لجهة انتمائهما وولائهما للوطن، وأعني بهما كل من العماد قائد الجيش العماد جوزيف عون والمدير العام للأمن العام اللواء إلياس البيسري لما أبداه كل منهما من حس بالمسؤوليَّة وجدارة في معرض ممارستهما لمهامهما الوظيفيَّة، والتي تميَّزت بثباتهما على المواقف الوَطنيَّة الخالصة وبعدهم عن الإصطفافات الفئويَّة. وإن كانت هناك ثمَّة اعتبارات شخصانيَّة تحول دون وصول الأول إلى سدَّة الرئاسة فالثاني يلقى إجماعًا حول مناقبيَّته ودماثة خلقه وتضحياته الشَّخصيَّة على المُستوى الوطني.
وأخيراً أنبّه من مغبة إنزال اسم الرئيس العتيد بباراشيت خارجي (أجنبي أم عربي)، وليتدارك المعنيون الأمر قبل فوات الأوان، وليستعيدوا المبادرة وينتخبوا الرئيس وفق روحيَّة الدستور اللبناني، ولا بدَّ في هذا الإطار من مناشدة دولة رئيس المجلس النيابي بضرورة توجيه دعوة عاجلة لأعضاء المجلس النيابي الكريم يدعوهم فيها للإلتئام في القاعة العامَّة في جلسة انتخاب مفتوحة، يلتزم فيها النواب بملازمة القاعة لحين انتخاب رئيس للجمهوريَّة، وتجنّب الدَّعوةِ المشروطة بالحوار والتَّشاور، واستبدالها بمداولة سريَّة مطوَّلة تُجرى مُباشرة بعد افتتاح جلسة الانتخاب على أن لا تستغرق أكثر من يوم كامل، يحصر خلالها الكلام بالتداول بمزايا وخصال الرَّئيس العتيد، توطئةً للبدء بعقد دورات اقتراع مُتتالية إلى أن يظفر المجلس بانتخاب رئيس للجمهوريَّة.
وأختُم بالإشارة إلى أنه لم يعد من المهم معرفة لصالح من ستُقفل المزايدات المعلن عنها، ومن سيتكفل بدفع ثمن شراء الضَّمائر، أما الأهم يتمثَّل بوقف مهزلة تسويق الرئاسة في أسواق النخاسة، لأن التاريخ لا يرحم، والأجيال القادمة لن تغفر لمن أمعن في المهاترات السياسيَّة التي أوصلتنا إلى هذا الدرك من الإسفاف والمهانة. اللهم اشهد أني قد بلّغت.