تبدو الخماسية كأنها في استراحة بعدما استنفدت كل ما يسعها ان تفعل. بدأت مهمتها وسيطة بين متناحرين، وهي الآن اقرب الى حائط مبكى يتشكى عنده اصحاب المبادرات. لم تنجح لأن الرئيس لم يُنتخب، بيد انها لم تفشل لأن أوان انتخابه لم يحن بعد
كلما تقدّم طرف محلي بمبادرة يريدها لانهاء شغور رئاسة الجمهورية، لاذ بسفراء الخماسية لإكسابها شرعية المضي فيها والحصول على دعم يشفع باستمرارها ويجعلها قابلة للحياة. الا انه لا يلبث ان يكتشف اخفاقه. لا يتأخر السفراء الخمسة في تقديم الدعم اذ يتوقعون لأي مبادرة او افكار جديدة تعزيز مهمتهم ما دام الاستحقاق وطنياً، وهم بدورهم معنيون بالاضطلاع بدور الوسيط ليس الا. اول العلة منذ ما قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون مع الجلسة الاولى لانتخاب خلفه في 29 ايلول 2022، قبل انقضاء الشهر الاول للمهلة الدستورية، بأن قدّمت صورة مسبقة متكاملة تقريباً للانقسام الداخلي واستحالة الانتخاب، ولما ستكون عليه الجلسات التالية بعدذاك الى موعد الجلسة الثانية عشرة في 14 حزيران 2023.لم يكن ثمة اي وجود للخماسية في ذلك الحين، ولم يُتح لهذه ابصار النور جدياً الا في اجتماع الدول الخمس في باريس، للمرة الاولى، في 6 شباط 2023 بمرور ثلاثة اشهر على الشغور. مذذاك اضحى ممثلوها، سفراء الدول الخمس في بيروت الاميركي والفرنسي والسعودي والمصري والقطري، شركاء في المساعدة على انجاز استحقاق اقرب الى محال. اجتازت الخماسية بعد باريس محطتين اخريين، في الدوحة في 17 تموز 2023 ثم في نيويورك في 20 ايلول. مع السنة الحالية توزّع السفراء الخمسة تنقّل اجتماعاتهم بين مقار سفاراتهم في لبنان، آخرها في 15 ايار الفائت في السفارة الاميركية في عوكر.
في الاجتماعات الثلاثة المعقودة خارج لبنان، المتفاوتة التمثيل مرة على مستوى الوزراء واخرى على مستوى موظفين كبار، المتباينة الجدوى مرة بلا بيان واخرى ببيان اشبه بانذار وثالثة بانفراط العقد، بدا اجتماع الدوحة الاكثر تأثيراً في مسار عمل الخماسية. وضعت للمرة الاولى مواصفات للرئيس افترضت لبنان يحتاج اليها في هذا الوقت بالذات في ذروة انهيار الدولة، اشبه ما تكون الى مثالية ومستحيلة في آن: تحليه بالنزاهة ومقدرته على توحيد الامة وايلاؤه مصالح البلاد الاولوية وتوفير اوسع ائتلاف شامل من حوله وتحقيق الاصلاحات البنيوية التي نادى بها صندوق النقد الدولي والمجتمع الغربي. اقترنت المواصفات تلك بالتلويح بفرض عقوبات على المتسببين بتعطيل انتخاب الرئيس.
كان ذاك السقف الاعلى للخماسية في مقاربتها الاستحقاق الرئاسي، على نحو اوحت كما لو انها تمسك عصا سحرية من شأنها فرض الانتخاب على المعرقلين في هذا الفريق او ذاك. اظهرت نفسها ايضاً انها فوق الافرقاء المحليين جميعاً، تتوسط في ما بينهم. بيد انها قادرة في الوقت نفسه على التهويل عليهم وتخويفهم حتى. انقضت سنة على ذلك البيان المهم، تصادف غداً 17 تموز، دونما ان يحرز الاستحقاق اي تقدّم.
في بيان الاجتماع الاخير لسفرائها في عوكر، احدثت الخماسية نقلة مختلفة، من غير الضروري وصفها بايجابية لطرف محايد، افصحت عن وقوعها في فخ السجال الداخلي من حول الحوار او التشاور الممهّد لانتخاب الرئيس كشرط لازم له، بأن وافقت الرئيس نبيه برّي على اجراء تشاور – بمضمون حوار – مقيَّد في النطاق والمدة للتوافق على مرشح او قائمة مرشحين، وماشت المعارضة بالدعوة الى جلسة انتخاب بدورات مفتوحة للخروج منها برئيس للجمهورية. ترك البيان الاخير انطباعاً بأن السفراء الخمسة اعطوا اقصى ما يملكون، كما لو انه خاتمة مطاف مهمتهم.
على ان واقع ما يدركونه، مجتمعين ومنفردين، بازاء مأزق انتخاب الرئيس، الملاحظات الآتية:
1 – سلّم اخيراً السفير المصري علاء موسى، نيابة عن زملائه، بما كانوا يتفادون الجهر به، وهو تعذّر فصل ما يجري في غزة عما يجري في جنوب لبنان عن الاستحقاق الرئاسي. قال ان لحظة اقليمية مناسبة بعد حرب غزة من شأنها شق الطريق الى انتخاب الرئيس اللبناني. حتى هذا الوقت، نظر السفراء الخمسة الى ان الخلاف لبناني – لبناني يسهل تذليله بتقريب وجهات النظر في ما بين المتناحرين، تارة على المرشح المفروض او المرفوض او المقبول وطوراً على حوار يسبق الانتخاب. ذلك بالفعل المأزق حتى غداة 7 تشرين الاول 2023 و«طوفان الاقصى». صار يكفي بعدذاك قول حزب الله اكثر من مرة ان وقف النار في غزة يفضي الى وقف النار في الجنوب كي يؤكد – وان جهر بالنفي – ان لا انتخاب للرئيس قبل التوصل الى تسوية سيكون شريكاً رئيسياً فيها.
2 – غالباً ما قيل وشاع عن فروق وتباين بين السفراء الخمسة في مقاربة الاستحقاق الدستوري. مرة ان لكل منهم اما مرشح او فيتو على مرشح، ومرة ان بينهم صراعاً على الاحجام والتأثير داخل الخماسية، خصوصاً ان اثنين من السفراء الخمسة يقاطعان فريقين لبنانيين لاعبين رئيسيين هما حزب الله والتيار الوطني الحر. شاع ايضاً ما هو حقيقي، ان السفراء الخمسة ليسوا متساوين في التأثير على الداخل.
اقتداءً بتجربتيْ 1989 و2008 الدور العربي ينتظر أوان انتخاب الرئيس
الاثنان الاوسع فاعلية على جرّ الخماسية الى خياراته هما السفيرة الاميركية والسفير السعودي. كلاهما يتقاطعان على ان لا روزنامة بين ايديهما الآن لانتخاب الرئيس، ولا توقيت منظوراً له، ولا اولوية تعنيهما منه، ولا حرارة حتى في ابداء الموقف. بينما السفير القطري لا يتوخى اكثر من ملف جديد يريد لدولته الاضطلاع بدور فيه في المنطقة هو لبنان بعد حماس في غزة، يتصرّف السفير الفرنسي على انه اكثر الملتصقين وجدانياً وتاريخياً بلبنان عارفاً بافتقاره الى المبادرة ومقدرة التأثير. وحده سفير مصر يملك مسحة تفاؤل تمكّنه من قول كل ما يريد دونما تحفظ اي من شركائه.
3 – تبعاً لسوابق متباعدة المراحل كما جسامة الاحداث التي رافقتها، عُوِّل باستمرار على دور عربي بغطاء دولي في محطات التسويات الكبرى والصغرى يجبهها لبنان. ذلك ما حدث في الماضي القريب على الاقل، في اتفاق الطائف عام 1989 عندما اقترنت التسوية الكبرى ليس بانتخاب الرئيس فحسب، بل الاتفاق على المرشح كي يُنتخب هو بالذات رئيساً هو الرئيس رينه معوض. تكرر في الدوحة عام 2008 اقتران تسوية صغرى بتحديد اسم الرئيس المنتخب قبل انتخابه في البرلمان هو الرئيس ميشال سليمان. في كلتيْ التجربتين تخفّى الغطاء الدولي وراء الدور العربي المباشر. كانت الجامعة العربية مرجعية تينك التسويتين. ذلك في احسن الاحوال ما يعرفه السفراء العرب الثلاثة في الخماسية، وان في معزل هذه المرة عن الجامعة العربية المقطّعة الاوصال حالياً. كانت عواصمهم حاضرة في سابقتيْ 1989 و2008 وان بأحجام متفاوتة. ذلك ما يُفهم ايضاً من الربط الضمني بين انتخاب الرئيس سواء المرشح المفروض او المرشح المقبول والتفاهم المسبق على ما سيرافق ولايته ومواقع الناخبين المحليين الاوسع تأثيراً فيها.