مع تكاثر المبادرات الداخلية وتنوّعها، يبدو أن هنالك قناعة لدى معظم اللبنانيين بأن موضوع الرئاسة يتخذ أهمية قصوى وأنه يتقدم على ما عداه، لا سيما بعد أن تبيّن أن حرب غزة مع تشعباتها الإقليمية مستمرة، وأن كل القرارات الدولية بالإضافة إلى العقوبات وقرارات المحكمة الدولية والجنائية الدولية لم تفعل فعلها بعد في إيقافها أو الحد من انعكاساتها الدموية لا سيما على المدنيين الآمنين. وهكذا فإذا كان موضوع الحرب ليس في يد اللبنانيين فإن انتخاب رئيس جديد للجمهورية بالرغم من ارتباطاته الخارجية لم يزل في أيدي الداخل، وأنه مهما قيل فإن للبنانيين أنفسهم أرجحية القرار والاختيار. ولقد فهم أكثر من طرف داخلي أنه بإمكانه أن يفعل شيئاً أو على الأقل فإن إمكانية المحاولة لم تزل قائمة، من هنا نفهم تحرك اللقاء الديمقراطي وتحرك التيار الوطني الحر والوزير باسيل في هذا السياق، اللذان يتحركان كل من موقعه مع ما لكل منهما من تأثير وفعالية على هذا الفريق أو ذاك، وإذا كان البعض يضع فيتو على البعض الآخر فإنه قد آن الأوان كي يقوم كل لبناني وكل مسؤول بالحد الأدنى من واجباته، أما القول بأن لا قيمة للحراك الداخلي في ظل الجمود الخارجي فإننا نورد المثل القائل أن «البحصة ممكن أن تسند الخابية» وأن في الحركة بركة أياً تكن النتائج.
سقوط الرهان على الخارج
وفيما الجهود الداخلية منصبة على تذليل العقبات وتقريب وجهات النظر فإن البعض لم يزل يراهن على الخارج، لا سيما على التطورات الإقليمية وعلى تطورات الميدان لكي تشكّل مدخلاً للحل، وهكذا لم يزل هذا البعض يعيش في سكرة الاتكال على الخارج وكأن الخارج سيقوم بتحقيق مصلحته هو على حساب مصلحة الآخرين. فتكثر الترجيحات وتتوالى التخمينات وتحديد المواعيد لتمدد الحرب وتوسّعها لكي تشمل أكثر من جبهة، حتى أن البعض لا يتوانى عن الجهر علناً بحتمية الحرب على لبنان ومع ما يشمل ذلك من قضاء على هذا الفريق أو ذاك بحيث تصبح المقاومة ومحورها في خبر كان، فتسقط الممانعة وفريقها في الداخل، وهم لا يرون في تدمير لبنان ومرافقه الحيوية سوى ضرورة ينبغي العبور منها إلى واحة السلام. هؤلاء لم يتعلموا شيئاً من دروس الماضي ومن تاريخ الدولة العبرية التي لن تقوم إلّا بما تملي عليها مصلحتها ومصلحتها فقط، وهي بعيدة كل البُعد عن إعطاء لبنان نوعاً من الطمأنينة، فلبنان الآمن والمستقر والمزدهر سيشكّل خطراً بالدرجة الأولى على الدولة العبرية، إذ إن الدول الديمقراطية المتعددة وغير الدينية تشكّل أنموذجاً قد يهدّد الكيان الصهيوني القائم على وحدة الدين ووحدة الشعب، وهكذا فإن نجاح النموذج اللبناني واستمراره بالحياة سيكون النقيض للدولة الصهيونية الذي يشكل الدين فيها الركيزة الأولى لنظامها، فإسرائيل هي الدولة الدينية بامتياز «état théocratique» فيما لبنان هو الدولة المتعددة بامتياز.
الرئيس مفتاح الحل في لبنان
بالرغم من المشاكل الكثيرة التي نعاني منها تبقى الرئاسة هي مفتاح الحل ويبقى رئيس الجمهورية بالرغم من ضآلة صلاحياته هو العنوان الأول للحل، فإذا تم التوافق وانتخاب رئيس فهذا يعني أن الجميع متفق على أن يقوم الرئيس بكامل صلاحياته، فتنتفي الخلافات الدستورية لا سيما في موضوع حتمية أن يقوم الرئيس بتوقيع الاتفاقات والمواثيق الدولية، فيصبح الرئيس هو رأس الدولة والقائد الأعلى لقواتها المسلحة (مجتمعة)، كل ذلك يعني وببساطة حتمية أن يتفق الأفرقاء على رئيس ينتخبونه بعدها، لأن أي رئيس لا يمكن أن يحكم إلّا إذا اتفق معظم الأفرقاء على دعمه، فوصول الرئيس ضروري أن يتم بالأكثرية المطلقة لعدد النواب ولكن لكي يتمكن من الحكم فعلى معظم القوى السياسية أن تقوم بدعمه، فالرئيس لا يحكم فقط بموجب الصلاحيات وهي قليلة ولكن استقرار حكمه وممارسته لدوره تتطلب التفاف اللبنانيين حوله.
الحوار.. الحوار ومن ثم الحوار
هكذا تبرز أهمية الحوار التي تسبق انتخاب الرئيس بحيث يؤمّن وصول رئيس الجمهورية بصورة سلسة تمكّنه من الحكم، وهكذا يبدو الحوار كممر إلزامي لانتخاب الرئيس وما عدا ذلك هو كلام فارغ قد يجد له تفسيرات دستورية ولكنه سيبقى بدون مفاعيل في عالم الواقع، وما على الذين يريدون انتخاب رئيس والإسراع في ذلك ما عليهم سوى الحوار طريقاً لتحقيق هدفهم. وهنا نذكّر بكلام الملك هنري الرابع البروتستانتي الذي قال أن باريس تستأهل قداس «Paris vaudra bien une messe». والرئاسة تستأهل من الجميع حواراً فهلمّوا.
* كاتب سياسي