في سياق الحملة القائمة في الأوساط اللبنانيّة والداعية إلى انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، وتجاوزاً للعراقيل الطبيعيّة والمصطنعة لتحقيق مثل هذا الانتخاب، خرجت علينا طروحات «تسهيليّة» عنوانها العام الحوار حول الرئاسة. وانطلقت هذه التسهيلات من جانب القوى الشيعيّة في لبنان، رسمية وعامة، ويأتي في مقدّمها موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري الداعي إلى الحوار كمدخل لحلّ مشكلة الرئاسة الأولى.
ومع أنّ هذه الدعوة لم تلاقِ الصدى الايجابي المطلوب فقد تمّ الاصرار على طرحها وشارك في الطرح العديد من رجال الدين الشيعة والاعلاميين والملتزمين وغير الملتزمين بـ»حزب الله» وحركة «أمل». وقد جاء الجواب عليها بنوع من التحفّظ من الجانب المسيحي العقائدي. لماذا هذه المبادرة؟ وما هي نتائجها على الساحة السياسية اللبنانيّة؟ ولماذا هي كلمة حق يراد بها باطل؟
لماذا هذه المبادرة؟
تعود هذه المبادرة إلى جملة عوامل طبعت الحياة السياسية في لبنان في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين:
• انسداد الأفق العام بسبب سيطرة السلاح، سلاح «حزب الله» على الحياة العامة في لبنان.
• تقلّص حدود سيادة الدولة اللبنانية على اقليمها الجغرافي.
• عدم الحسم الواضح في الانتخابات النيابية بين «قوى الهيمنة» و»قوى السيادة»!
• عدم حسم «القوى التغييريّة» مكانتها ودورها وموقعها على خريطة الوطن.
• التأرجح بين القوى السياسية والقوى الأكاديميّة.
إزاء مثل هذا الوضع المعقّد، رأت الجماعة الشيعيّة أن تستفيد إلى الحدّ الأقصى من الوضع الصعب والمعقّد حول الرئاسة، وتطرح بالتالي فكرة الحوار بين القوى اللبنانيّة تمهيداً للوصول إلى اختيار رئيس للجهورية. ومثل هذا الاختيار يكون متأثراً بالضغوطات التي يمكن أن يفرضها الحوار. وهو أسلوب يتناقض مع ما ينص عليه الدستور اللبناني.
تقول المادة 73 من الدستور: «قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهوريّة بمدة شهرين على الأكثر يلتئم المجلس بناء على دعوة من رئيسه لانتخاب الرئيس الجديد وإذا لم يدع المجلس لهذا الغرض فإنّه يجتمع حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس..». وتقول المادة 75 «إنّ المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يُعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعيّة ويترتّب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر».
.. إذاً الدستور ينص بصراحة ووضوح على أن المطلوب هو الشروع فوراً في انتخاب الرئيس وليس الحوار حول الرئاسة. وهذا يفرض أن تبقى جلسات الانتخاب مفتوحة ومستمرة للوصول إلى اختيار الشخصية الرئاسية على يد النواب، وليس كما جرى الآن وما سمّاه غبطة البطريرك بشارة الراعي بالمسرحية الهزلية حيث يتم رفع الجلسة وتعيين موعد لجلسة أخرى في سياق خطة تهدف إلى عدم انتخاب رئيس واستبعاد مثل هذا الاحتمال تمهيداً لايصال رئيس تابع لقوى الأمر الواقع وبالتالي لاستمرار وضع اليد على القضية اللبنانية.
إنّ الذين يمجّدون الحوار ويدعون إليه لا يفرّقون بين أمرين: إنّ الحوار هو مسألة فكرية معرفية، في حين أنّ الانتخاب هو مسألة اجرائية عملية. وفي الحالتين تكون ارادة النائب الناخب هي العامل الحاسم في ابراز ارادة الناخب وخياراته. وإنّ السرعة التي يدعو اليها الدستور في تحقيق عملية الانتخاب تستبعد التأخير في البت الذي ينتج عن الحوار!
نتائجها لبنانياً
إنّ التلاعب بموضوع انتخاب رئيس الجمهورية والتلطّي خلف آرمات الحوار هما انتهاك فاضح للتوازنات السياسية التي قامت عليها القضية اللبنانية. إنّ انتخاب رئيس الجمهورية وما يتعلق بها هو مسألة ميثاقية لا يمكن الخروج عليها وخاصة على يد القوى الشيعية في لبنان. إن الاصرار على اعتماد الحوار، وليس الانتخاب، سبيلاً للوصول إلى رئاسة الجمهورية سيؤدي حكماً إلى رد فعل من جانب القوى المسيحية السيادية. وخلاصة رد الفعل هذا ستكون على الشكل التالي:
إذا كان الحوار ضرورياً ولازماً كطريق إلى اختيار رئيس الجمهورية فينبغي تعميم هذا الحوار وجعله قاعدة لاختيار المرجعيات الأربعة في الطوائف الكبرى اللبنانية الأربع: الموارنة والسنة والشيعة والأرثوذكس.
اذاً الحوار ينبغي أن يتم ويجري لاختيار رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب ونائب رئيس الحكومة. إذ من قال إنّ رئاسة المجلس النيابي أو سواها هي محسومة سلفًا لفلان أو فلان من النواب. إنّها تخضع مثل غيرها للحوار بين اللبنانيين وقد تصل الأمور إلى نتائج لا يتوقعها الكثيرون.
إنّ الاختباء خلف لعبة الحوار لتأكيد الانفتاح والتلاقي بين اللبنانيين هو مسألة ذات وجهين: الوجه الايجابي للحوار كوسيلة لتمتين العلاقات بين اللبنانيين والوصول إلى تفاهمات مشتركة. الوجه السلبي للحوار كوسيلة لاستبعاد انتخاب رئيس الجمهورية كونه فاصلاً بين الشغور الرئاسي واجراء عملية الانتخاب.
الحوار: كلمة حق يراد بها باطل!
إنّ الحوار بذاته كممارسة انسانية فكرية قائمة على التفاهم والتفاعل بين اللبنانيين هي بذاتها وبطبيعتها علامة ايجابية وكلمة حق تتردد بين آذان المواطنين وفي ضمائرهم. لكن هذا الحوار يتحوّل كما هي حاله هنا إلى معطى سلبي وليس إلى معطى ايجابي. ذلك أنّ الهدف منه هو في الواقع نقيض لطبيعته أي: نقيض لمبدأ اللقاء واتجاه إلى مبدأ الانقسام والفرقة والتعطيل.
ماذا على «السياديين» أن يفعلوا لكي يتحقق انتخاب رئيس جديد سيادي واصلاحي للجمهورية، رئيس» لبنانويّ مارونويّ» يضع لبنان عل خط المستقبل! إذا استمرّ الثنائي الشيعي في ضغطه على الوضع اللبناني، وعلى الجانب المسيحي بشكل خاص، لعدم الوصول إلى انتخاب رئيس للجمهورية، سيكون على القوى السيادية اللبنانية من مختلف الفئات والجهات ان تعلق سحب موافقتها الشرعية على التركيبة القائمة والدعوة إلى تركيبة سياسية جديدة لا يكون فيها استئثار للقوى المسلحة غير الشرعية بالحياة السياسية اللبنانية. وعندها يسقط مفهوم الحوار على أبواب الانتخاب ويعود لبنان إلى زمن التوازن والحياة المشتركة.
(*) باحث في الفكر الجيو سياسي