في لعبة الشطرنج الرئاسية، قرَّر الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله أن يدخل على المشهد الجامد ويحرِّك حجراً من مكانه. وهذا الأمر سيفرض على اللاعبين الآخرين أن يدخلوا ويحرِّكوا حجارتهم أيضاً. وهكذا، دخلت لعبة الرئاسة منعطفاً جديداً فيها من «خلط الأوراق» بقدر ما فيها من «إحراق الأوراق».
في توقيت دقيق، سارع الرئيس نبيه بري والسيد نصرالله إلى حسم الخيار الرئاسي، وتسمية رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية رسمياً، بعد أشهرٍ من التريُّث. وبذلك، لم يعد هناك مجال للتراجع، خصوصاً من جانب «حزب الله» الذي لا يصنّف نفسه طرفاً سياسياً تقليدياً، ولا يعتمد أسلوب المناورات السياسية بالمعنى التكتيكي. والدليل أنّه في العام 2014، عندما تبنّى ترشيح الرئيس ميشال عون، لم يتراجع ولم يناور، بل بقي يقاتل لوصوله أكثر من عامين.
ويعتقد البعض أنّ تسمية «الثنائي الشيعي» لفرنجية شكّلت الانطلاقة الفعلية لمعركة الرئاسة. وفي رأي هؤلاء، أنّ بري ونصرالله أرادا استباق أي مفاجآت إقليمية أو دولية، بفرض أمر واقع، إذ توافرت معطيات مفادها الآتي:
أولاً، إتجاه القوى العربية والدولية، ولاسيما اجتماع باريس الخماسي، إلى تزكية قائد الجيش العماد جوزف عون، باعتباره مرشحاً وفاقياً ويحظى بثقة الجميع في الداخل والخارج.
ثانياً، إنّ تأمين العناصر اللازمة لانتخاب فرنجية بات أمراً ممكناً، وتحديداً لجهة حصوله على التغطيات الثلاث التي يحتاج إليها داخلياً وخارجياً، وهي:
-1 حضور 86 نائباً ليكتمل نصاب الجلسة. وفي هذا السياق، يقول المطلعون إنّ «الحزب» بات أكثر اقتناعاً بأنّ رئيس «التيار الوطني الحر» لن يكسر الجرَّة معه في النهاية، وسيرضخ لمقتضيات الأمر الواقع، وسيؤمّن مشاركة تكتل «لبنان القوي» في الجلسة، مع إبقاء الهامش مفتوحاً كي يحصل فرنجية على عدد من أصوات التكتل، بحيث يؤمّن الـ 65 صوتاً التي يحتاج إليها في الدورة الثانية.
ويعتقد هؤلاء، أنّ حضور نواب «التكتل» من شأنه أن يمنح الجلسة أيضاً تغطية مسيحية ميثاقية. فيما سيختار رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط أن يشارك، وقد يصوِّت لفرنجية أيضاً، ومثله العديد من النواب المستقلين المسيحيين والسنّة. ومن السهل على «الحزب» أن يقطع وعداً جديداً لباسيل لانتخاب الرئاسة بعد 6 سنوات، فينتظر كما انتظر فرنجية انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون.
بل إنّ بعض هؤلاء يذهب إلى حدّ الحديث عن اتجاه لتشكيل كتلة نيابية متنوعة الانتماء طائفياً، تكون عملياً «كتلة العهد». ويمكن تحقيق هذا الهدف بجمع بعض النواب المستقلين أو المنتمين إلى تكتلات أخرى.
-2 توفير التغطية العربية، والسعودية تحديداً. وفي اعتقاد بعض الداعمين لترشيح فرنجية، أنّ المملكة ستلين مواقفها تدريجاً منه: أولاً لأنّ شخصيته ليست عدائية أو حادّة تجاهها، ولو أنّه حليف قديم لخط دمشق- طهران. وثانياً، لأنّ من المحتمل أن تتحسن العلاقات في الأيام والأسابيع المقبلة بين الرياض ودمشق، إذ يجري البحث في احتمال مشاركة الرئيس بشار الأسد في المؤتمر الدوري للرؤساء والملوك العرب المقرّر عقده في المملكة خلال الشهر الجاري. وإذا تحقق هذا الانفراج فقد يترك أثره في رفع «الفيتو» السعودي عن فرنجية.
-3 استتباعاً للانفراج مع السعودية، فإنّ اجتماع باريس الخماسي الذي من المقرّر أن ينعقد مجدداً هذا الشهر، سيكون أكثر تجاوباً مع انتخاب فرنجية. فالفرنسيون موافقون أساساً، ولا يبقى عالقاً سوى التفاهم مع الأميركيين، خصوصاً إذا استنتجوا أنّ باسيل وجنبلاط وآخرين بدَّلوا مواقعهم ووفّروا التغطية لفرنجية.
وبالتأكيد، هناك مغزى لمسارعة «الثنائي الشيعي»، بالتزامن، إلى مفاجأة الجميع بتبنّي ترشيح فرنجية رسمياً. فالمسارعة تعني وضع حدود واضحة للمعركة استباقاً لأي تطوّر أو موقف. وبعدها، سيكون على أي كان، داخلياً أو خارجياً، أن يدرس حساباته جيداً قبل تسمية مرشح آخر.
ولكن، هل هذا التصوُّر- «المتفائل» لمصلحة فرنجية- هو في محلّه الصحيح؟
في المقلب الآخر، يُقال إنّ حصول فرنجية على التغطيات المسيحية في الداخل، وتغطية السعوديين والأميركيين، شبه مستحيلة حتى إشعار آخر، وأنّ البلد سينتظر طويلاً في الفراغ عملية اللعب بالأوراق والأسماء والمواقع: خلط بعضها وإحراق بعضها الآخر.
كل ذلك، فيما الأسماء المعنية، وفي مقدّمها فرنجية وعون، في وضعية الصمت شبه الكامل. ومِن سِمات الانتخابات الرئاسية في لبنان، أنّ المرشحين ليسوا مضطرين إلى الإعلان عن أنفسهم أو برامجهم رسمياً. وقد يقفز أي «مجهول» إلى الواجهة في أي لحظة ويفرض نفسه ويكسب السباق، ما دام الانتخاب لا يعني الشعب، بل 128 شخصاً تحت قبة البرلمان، فقط لا غير.