ممّا لا شك فيه انّ إعلان “الثنائي الشيعي” دعمه ترشيح رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية قد شكّل تحولاً مهماً في مسار الاستحقاق الرئاسي. وعلى رغم من سيل المفارقات التي شابت الخطوة في توقيتها وشكلها ومضمونها، فإنها نقلته من المواجهة الداخلية القائمة إلى المواجهة الخارجية، وتحديداً مع بعض أطراف “لقاء باريس الخماسي”، في انتظار ما يمكن ان يؤدي إليه الحراك الخارجي الذي لم يتوقف يوماً. وعليه، ما هي المعادلة التي يمكن الحديث عنها؟
على وقع مجموعة من الملاحظات التي شابت خطوة “الثنائي الشيعي” الاخيرة بدعمه ترشيح فرنجية بمرحلتها، تعددت السيناريوهات المتداولة في شأن الاستحقاق الرئاسي ووضعت مجموعة من القوى النيابية والسياسية في مواجهة شبه متكافئة تعكس الانقسام النيابي بما يُقارب “ميزان الجوهرجي” الذي فرض وجوده متغيراً بفوارق بسيطة في أكثر من استحقاق انتخابي وما بينهما.
ولعل العودة الى مجموعة “الاكثريات” التي تشكلت في محطات عدة واجب وضروري، أولاها عند اعادة انتخاب رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وثانيها تلك التي جاءت بنائبه الياس ابو صعب وتشكلها بـ”خلطة جديدة” عند انتخاب أمينَي السر ورؤساء ومقرري واعضاء اللجان النيابية تثبت هذه النظرية المتحولة التي لا يمكن الركون إليها كاملة عند بلوغ الاستحقاق الرئاسي، خصوصاً انه من الاستحقاقات التي تجري مقاربتها من زوايا مختلفة عن تلك التي عبرت. فما شهدته تلك المحطات الدستورية لا يمكن استنساخه مجدداً، بمعزل عن ثقل “الثنائي الشيعي” وما يجمعه من حوله من كتل نيابية حليفة ونواب مستقلين وصلوا الى ساحة النجمة بقاطرته.
وقبل الدخول في تفاصيل السيناريوهات المتشابهة والمتداولة في الاندية السياسية، خصوصاً تلك التي تسعى الى مقاربة الاستحقاق الرئاسي من هذه الناحية، فإنّ الانتقال من مرحلة الأوراق البيض الى مرحلة تسمية فرنجية ما زالت تخضع للمناقشات الدقيقة انطلاقاً من زوايا متعددة. وبمعزل عن استمرارها حتى اليوم في المواجهة مع من رشّحوا النائب ميشال معوض طالما انّ مؤيديه لم ينتقلوا بعد الى اي خيار آخر في ظل الاصرار على ان اي خطوة يمكن ان تقود الى ما يغيّر الستاتيكو الحالي سيكون بالتنسيق والتعاون معه في انتظار اكتشاف من يمكنه أن يحصد ولو صوتاً اضافياً واحداً.
وعليه، فقد أجمعت مصادر ديبلوماسية وسياسية على ان الاسلوب المعتمد في ترشيح فرنجية لم يقنع بعد القوى المناهضة على الساحتين الداخلية والخارجية. وتضيف انّ الأسلوب الذي اعتمد بمرحلتيه ما بين عين التينة والضاحية الجنوبية لم يبعد فرنجية من لائحة مرشحي “حزب الله” بعد، خصوصاً انه لم يعلن ترشيحه رسمياً على رغم من عدم الحاجة الى مثل هذه الخطوة عند انتخاب الرئيس. وتستطرد لتقول ان المقارنة التي أجراها نصرالله بين هذه الآلية وتلك التي سمّت الرئيس السابق للجمهورية العماد ميشال عون العام 2016 لم تكن موفقة ومقنعة بما فيه الكفاية. فالجميع يدرك في ظل الانقسام الحاد ان ترشيح “الثنائي الشيعي” لفرنجية لم يشكل اي مفاجأة وقد تكررت المواقف التي قالت إن اسم فرنجية كان مكتوباً “بالحبر السري” على الأوراق البيض. وأن التكتيك المعتمد كان يراهن على “النفس القصير” لمؤيدي النائب ميشال معوض او غيره للتراجع عنه لتفتيته، في ظل التشتت الذي عبّرت عنه الكتل والقوى المعارضة. ولذلك فقد بات ترشيح فرنجية موازياً بالنسبة اليهم لترشيح معوض فهم لا يحتسبون وجود اي مواجهة بينه وقائد الجيش العماد جوزف عون طالما انّ التعديل الدستوري متعذّراً. وقد كشف بري أخيراً انّ المخرج الذي اعتمد عام 2008 بانتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، لن يتكرر مرة أخرى لانتفاء الظروف التشريعية والدستورية التي فرضها التوافق الكبير الذي أعقب “تفاهم الدوحة” ولم يسجل اي طعن في حينه لدى المراجع المختصة، والذي كان يمكن ان تطيح بالعملية الانتخابية.
وإن كانت هذه المقاربات محصورة بما تشهده الساحة الداخلية من مناقشات لم تؤد بعد الى إحداث اي متغيرات اساسية تغيّر من واقع التوازنات الداخلية، فإنّ النظر الى خريطة المواقف الخارجية يبدو اكثر تعقيداً وخصوصاً بعد “لقاء باريس” الذي استقطب اهتمامات الاطراف كافة وبلا استثناء. حتى الذين يدعون الى إبقاء الاستحقاق ضمن جدران لبنانية فقط ـ ومنهم “حزب الله” ـ لا يخفون انهم ينتظرون موافقة بعض الاطراف على مرشحهم، لا سيما منها الجانبين الأميركي والسعودي بعد الفرنسي، لتسهيل مهمته في ولايته المقبلة. وهم يعتقدون ومعهم اطراف اخرى مؤثرة انّ من المستحيل مواجهة اي من مسلسل الازمات المتفاقمة والمتناسلة التي يعيشها البلد بالقدرات اللبنانية ولا بد من الدعم الخارجي المؤدي الى فتح الطريق الى مرحلة التعافي والإنقاذ. وإن كان صندوق النقد الدولي احد المعابر الاجبارية، فإنّ الدعم من دول ومؤسسات مانحة أخرى مطلوب بإلحاح وبالسرعة القصوى، وأن على المسؤولين اللبنانيين إقرار الحد الادنى مما هو مطلوب من اصلاحات لاستدراج هذا الدعم وتحوّله من مرحلة إثبات النيات الى مرحلة الالتزامات وهي قيد التجربة الصعبة.
وتأسيساً على هذه المعادلة المعقدة بعناصرها الداخلية والخارجية ومدى تداخلها الى الحدود القصوى، فإنّ إقدام “الثنائي الشيعي” على دعم ترشيح فرنجية في ظل هذه الظروف المعقدة المحيطة بموقعه، فتح الآفاق واسعة أمام مواجهة خارجية قد تكون صعبة وخطيرة، مع الأمل في ان لا تكون طويلة المدى. فأصحاب هذه النظرية يقدّرون خطورتها انطلاقاً من ناحيتين: الاولى مرتبطة بقدرة “الثنائي” على إقناع العواصم الكبرى بفرنجية – وهو قد يكون الاقرب من غيره الى فهم حدة المواقف الخارجية الرافضة ومعاييرها المختلفة – وثانيها ان تحولت المواجهة المقبلة حرباً مباشرة بين طهران من جهة وكل من واشنطن والرياض من جهة اخرى، وعندها قد تكون المخاطر أكبر بكثير مما هو متوقع لها من تداعيات على المَديين القريب والبعيد.
عند هذه المؤشرات المتناقضة والمتقلبة، تقف المعالجات الجارية للاستحقاق الرئاسي، وان لم يستطع اي مرجع سياسي او ديبلوماسي تقديم اي صورة عما ستحمله التطورات المقبلة من اليوم، فإنّ الحديث عن “لقاء باريس 2” قد يشكّل دعوة وفسحة لا بد من أن تأتي بما يؤشّر الى المنحى الذي ستتخذه هذه المكاسرة بما تحمله من نتائج متناقضة تتراوح بين الانفراج والإنفجار.