بات جلياً أنّ موقف المملكة السعودية والذي عبّر عنه السفير السعودي وليد البخاري، من خلال تأكيده على مسلمتيْن، الأولى ترك الاستحقاق الرئاسي لأهله اللبنانيين، ورفع الفيتو عن كلّ المرشحين، نزل على القوى السياسية، بمظلتيْن.
فالقوى المؤيّدة لرئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية رأت فيه ضوءاً برتقالياً للسير بهذا المشروع بعدما تمّ اطفاء الضوء الأحمر على نحو رسمي وعلني، ما أعاد المبادرة إلى الداخل اللبناني بحثاً عن أكثرية 65 صوتاً تضع اسم فرنجية في الصندوق، ومن ثم العمل على تأمين نصاب الثلثين. وفق هؤلاء، يكفي أن ترفع الرياض الأسلاك الشائكة من أمام القطب الزغرتاوي، لكي تبدأ رحلة العمل جدياً على إتمام تسوية داخلية تأتي به رئيساً. أما بقية الأجندة فتحتمل التأجيل…
فيما معارضو فرنجية يركنون إلى الموقف الذي ردّده ويردده البخاري في جولته، والذي يؤكد خلاله على ممر التوافق بين اللبنانيين لانتخاب رئيسهم، ما يعني وفق هؤلاء أنّ الطريق إلى القصر ستمّر حكماً بمعبر تأييد القوى السياسية الحليفة للسعودية التي لن تطلب أو تضغط عليها لتأمين وصول أي مرشح، بمن فيهم فرنجية.
ولكن بمعزل عن وجهَي عملة تفسير كلام السفير السعودي، فإنّ جملة المواقف التي أطلقها، حققت هدفين أساسيين:
– غسلت السعودية يديها من تهمة عرقلة الاستحقاق الرئاسي بعدما سحبت دفتر شروطها ومواصفاتها وتركت الطابة في ملعب اللبنانيين المسؤولين عن إنجاز استحقاقهم بالطريقة التي تناسبهم. وبالتالي إنّ القوى السياسية المحلية هي التي تتحمّل مسؤولية أي تعطيل أو مماطلة أو تأخير فيما لو حصل.
– كذلك غسلت يديها من أي التزام مالي للمرحلة المقبلة، بمعنى أنّها لن تكون شريكة في طبخة الرئاسة الجديدة بمعزل عن هوية الرئيس الجديد، خصوصاً وأنّ ما يعرض عليها من صيغ لا يرتقي إلى رتبة مطالبها. وبهذا المعنى، وبهذا الشق تحديداً، يُفهم أنّ السعودية لا تزال في المربّع الأول: نأي عن لبنان، حتى لو لم تبدِ معارضتها للعهد المقبل. لكنها بالمقابل غير مستعدة لدعمه، إلّا في حال تغيّر مضمون وشكل الصيغة التفاهمية التي ستعرض عليها والتي تُقنعها بأن تكون شريكة فعلية في الملف اللبناني. ولكن حتى الآن تبدو غير مكترثة. ولهذا لا دعم مالياً للبنان، كما يؤكد بعض المواكبين للاتصالات الرئاسية.
بناء عليه، يقول المواكبون إنّ انتقال السعودية من مربّع الرفض إلى مربّع القبول بأي مرشح بمن فيهم فرنجية، ولكن من دون تأمين الغطاء السياسي والمالي، يعني أنّه صار للأخير نقطة لمصلحته، ونقطة أخرى على حسابه. أي أنّ الطريق أمامه لم تعد مقفلة بحاجز سعودي، لكنّ عهده، في حال تمكّن من تأمين أغلبية والنصاب القانوني (وأمام هذين الشرطين الكثير من العقبات)، سيكون مكبّلاً بالانهيار والتدهور، إلا اذا كان يراهن، وحلفاؤه، على تطور ما في موقف السعودية خلال المرحلة المقبلة. وهو احتمال كبير.
كما أنّ «وسطية» الموقف السعودي وفق توصيف أحد المعنيين، تبرر ما يُنقل عن انزعاج الإدارة الفرنسية التي كانت تراهن على اندفاعة أكبر من جانب المملكة ووضوح أكثر في تبنيها لفرنجية، لكنها فوجئت بأنّ السعودية لم تقدم إلا تنازلاً وحيداً وهو اسقاط الفيتوات. ولهذا يقول المطلعون على موقف باريس إن المبادرة الفرنسية مترنّحة، لا بل تراجعت خطوات إلى الخلف، كونها لم تحقق الخرق المطلوب. وثمة كلام عن نقاش جديد بحثاً عن أفكار جديدة يمكنها أن تحقق هذا الخرق.
المشهدية المحلية
بالنتيجة، بات المشهد اللبناني على الشكل الآتي:
حررت السعودية حلفاءها من موقفها، ما يعني أنّ «القوات» ليست مضطرة للقيام بأي تنازل سواء من خلال تأمين النصاب أو تأييد فرنجية، وهو غير مطروح أصلاً. ولكن في المقابل، بات السؤال حول تموضع محتمل لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، والنواب السنة، مشروعاً… اذا ما افترضنا أنّ ممانعة القوى المسيحية ثابتة في المدى المنظور: هل سينتقل هؤلاء إلى ضفّة فرنجية أم سيلتصقون باعتراض «القوات» ورفضها تأمين النصاب للحؤول دون وصول القطب الزغرتاوي إلى القصر؟ أم سيقبعون في الوسط بانتظار جلاء الصورة في الاقليم؟
خلال زيارته الأخيرة إلى باريس، نُقل عن جنبلاط أنّه أبلغ الفرنسيين أنّ موقفه لا يشكل حجر عثرة أمام فرنجية، طالما أنّ عاملين مانعين يحولان قبله دون وصول القطب الزغرتاوي إلى بعبدا، ويتلخصان بالآتي: رفض السعودية واعتراض القوى المسيحية. وعليه لن يقدم على أي خطوة ايجابية قبل حلّ تلك العقدتين.
والآن مع تطور موقف الرياض، هل بات الاشتراكيون أقرب إلى فرنجية؟
وفق هؤلاء، فإنّ موقف جنبلاط نابع من ثابتة أساسية تتصل بتوازنات الجبل التي تعبّر عنها المصالحة المسيحية – الدرزية. وما اقتراعه للرئيس ميشال عون في العام 2016 إلّا من باب حرصه على حماية المصالحة. وبالتالي طالما أنّ المسيحيين في خندق رفض فرنجية، فلن يخطو الاشتراكيون أي خطوة للأمام باتجاه منح أصواتهم للقطب الزغرتاوي. هذه واحدة من ثوابت لن يتجاوزوها أبداً.
كما أنّ الاشتراكيين لم يقرأوا بين سطور السفير السعودي أي تطور نوعي، لا بل ثمة من يستعيد بالذاكرة مشهدية نأي السعودية بنفسها عن قرار سعد الحريري بالتفاهم مع الرئيس ميشال عون تمهيداً لانتخابه. وفق هؤلاء هي المسافة ذاتها التي اتخذتها يومها الرياض من الاستحقاق الرئاسي. ما يعني أنّها لن تكون شريكة في التسوية وبالتالي لن تكون على ضفّة الداعمين الماليين. وهنا جوهر الإشكالية التي يواجهها فرنجية.
الرئاسة معلّقة
ولكن بالإجمال، يمكن الاستنتاج أنّ الرئاسة معلّقة، والاستحقاق مؤجل. لا يبدو متاحاً في المدى المنظور، وثمة من يربط تحرير الرئاسة بملفات المنطقة التي توضع على طاولة الاتفاق السعودي – الإيراني الواحد تلو الآخر. يقول مؤيديون لفرنجية، إنّ الملف اللبناني يأتي في آخر الترتيب وعليه انتظار كلّ مراحل الاختبار التي سيعبرها الملف اليمني، ومن بعده العراقي والسوري، ليتأمن التفاهم على الملف اللبناني.
ومع ذلك، يقولون إنّ السعودية في مواقفها الأخيرة، وضعت الرئاسة اللبنانية في مرحلة انتقالية، ما بين الرفض والتأييد. وللانتقال إلى المرحلة الثالثة لا بدّ من مزيد من الوقت لتأمين شروط المملكة ومطالبها لتكون شريكة فعلية ولكي تطلق قطار الاستثمارات. عندها ينتقل النقاش إلى البحث عن الإخراج.