ينحو الاستحقاق الرئاسي الى ما يُشبه مجموعة من السيناريوهات التي تؤكد وجود من هو قادر على تنفيذ «هندسات رئاسية» يمكن ان تقود إلى آلية انتخابية محكومة بخطوات منسّقة سلفاً تخرج الاستحقاق من المأزق الدستوري، وتنقله الى المرحلة التشريعية لتوليد الرئيس العتيد للجمهورية. وفي ظل ما هو متبادل من أفكار فإنّ رصد حراك قادة المعارضة ومحور الممانعة بات ضرورياً لتوقّع ما يمكن ان تؤدي اليه عملية «الترسيم» المنتظرة. وعليه، كيف يمكن تفسير هذه المعادلة؟
للمرة الأولى ومنذ ان خَلت سدّة رئاسة الجمهورية مطلع تشرين الثاني الماضي ومرور أكثر من ثمانية أشهر ونصف على المهلة الدستورية المُمكنة لانتخاب رئيس جديد، يتحسّس المراقبون انّ هناك بشائر خريطة طريق جديدة يمكن ان تؤدي الى انتخابه. وهو أمر بات رهناً بصدق النيات الساعية الى إتمام هذا الاستحقاق من عدمه سواء على مستوى الداخل او الخارج. فالعملية لم تعد رهن الحراك اللبناني لوحده وان بعض الخطوات باتت رهناً بتفاهم إقليمي ودولي يقود الى تسمية من يرضى عنه لرعاية خطواته المقبلة ومساعدته على إعادة بناء الدولة ومؤسساتها. بعدما بلغت الانهيارات مراحل متقدمة انعكست شللاً في مختلف المؤسسات الدستورية والادارية والخدماتية ما عدا الأمنية منها التي تكافح لتبقى قادرة على ضمان الحد الادنى من الامن الذي لا يزال يشكّل بوابة عبور الى حماية ما تبقى من الامن الاجتماعي والاقتصادي.
على هذه القواعد العامة، يراهن العارفون بما حقّقته الضغوط الخارجية على القيادات اللبنانية على حَجم التجاوب الداخلي مع مجموعة الصيغ التي أوحَت بها المبادرات الديبلوماسية التي عبّر عنها علناً السفير السعودي وليد البخاري عند دعوته الى استعجال الخطوات الانتخابية، وما رافقها في السر والعلن من إيحاءات ديبلوماسية أفضَت اليها تحركات نظرائه سفراء مجموعة «لقاء باريس الخماسي»، ومنها تلك التي عبرت عنها السفيرتان الفرنسية آن غريو والأميركية دوروثي شيا بعد جولة الموفد القطري وزير الدولة للشؤون الخارجية عبد العزيز الخليفي والحراك الصامت للسفير المصري ياسر العلوي الذي أبدى حرصاً غير مسبوق على نسبة عالية من السرية في جولته والصمت إبّانها على مختلف القيادات اللبنانية من دون ان يستثني أيّاً منهم.
وان طلب الى هؤلاء العارفين الدخول في التفاصيل، فهم لا يُخفون نوعاً من التشكيك بوحدة الموقف الخارجي قياساً على انقسامات الداخل التي يمكن ان تشكل انعكاساً لتجاذبات خارجية ما زالت قائمة تترجمها بعض الخطوات المتمايزة. فعلى رغم من الإجماع الدولي على ضرورة إنهاء حالة خلو سدة الرئاسة بأسرَع وقت ممكن فإنّ التمايز ما زال قائماً بالنسبة الى بعض الأسماء المتداولة في الاستحقاق ولو بطريقة ما زال يلفّها الغموض، مخافة ان تتكرر التجارب السابقة التي فشل فيها اللبنانيون في ترجمة ما تعهدوا به من إجراءات إصلاحية وخطوات يمكن ان تساهم في استعادة لبنان «موقعه الحيادي» الذي يبعد ساحته الهشّة عن مسار النزاعات الكبرى في المنطقة. أمّا وقد تقلّصت تجاذباتها إلى الحدود الدنيا بعد اعادة سوريا الى الجامعة العربية ومؤسساتها، وتفاعلات «تفاهم بكين» بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الاسلامية الايرانية بحيث يمكن أن يشكل نموذجاً للتعايش ان صدقت التعهدات ومعها المساعي الى «تصفير» الازمات الاقليمية بين الطرفين ودفع حلفائهما الى التعايش بما يضمن الحد الأدنى من الإستقرار المفقود على اكثر من ساحة ومستوى.
وتأسيساً على ما تقدّم من هذه الملاحظات، فإنّ العودة الى ما هو مُرتقب من سيناريوهات على مستوى الاستحقاق الرئاسي توحي بأن أكثر من مُعطى يَشي بإمكان اللجوء الى بعضٍ منها بما يؤدي الى تقريب موعد الجلسة الانتخابية التي يمكن الرئيس نبيه بري ان يدعو اليها متى توافرت ظروف المواجهة بين مرشحين مؤهّلين لخوض السباق بقدرات متقاربة تشكّل نوعاً من «المبارزة المتكافئة» بينهما. وهي معادلة تسمح بنوع من المخاطرة بما تحمله من إمكان انتخاب اي منهما، او سقوطهما معاً وفق سيناريو طرح على اكثر من مرجعية وفي اكثر من مطبخ انتخابي بطريقة قد يكون الاقرب الى ان يتحول حدثاً بارزاً يؤهّل الجميع الى اعادة احتساب مصادر القوة والمعايير التي تحدد موازين القوى المتوافرة لدى كل منهما.
وبناء على ما تقدّم من معطيات، فإنّ الحديث المتنامي عن «هندسات رئاسية» له ما يبرره عندما تخصّص جلسات عدة للبحث في طريقة تعديل موازين القوى التي تضمن بلوغ هذه المحطة ليس من اجل ان تتسبّب بحال من الاحباط المؤدي الى طول انتظار، بل لتوفير مواجهة متكافئة بين مرشحين يتعرّضان لكثير من الفيتوات المتبادلة لا بد عندها من ان تنتهي إلى البحث عن معادلة تفرض فتح لائحة جديدة من الأسماء المرشحة لخوض الاستحقاق والبحث فيها عمّن يشكّل انتخابه تسوية لا بد ان تكون قد استوَت عناصرها وتوافرت في الشكل والمضمون والتوقيت.
وفي حال جرى ما يتوقّع بهذه الطريقة، فسيكون عندها على مختلف القوى، والتي لن يكون لأيّ من اطرافها أي خيار بديل حاسم، ان تعترف بأنه بات عليها جميعاً الاقرار بضرورة الخروج من المأزق القائم. وهي آلية لا بد لها من ان تقود الى خطوات تؤدي الى بداية انفراج لا بد منه ويقتضي معه القيام بالخطوات الكفيلة بالخروج من المعادلة السلبية الى ما يشكّل حلاً يفرض عدم البقاء في الموقع السلبي الذي لا يؤدي سوى الى مزيد من الشرذمة والتباعد وقد يؤدي الى حال سيئة وخطيرة جداً لن يكون من السهل تجاوزها ومعالجة تداعياتها الخطيرة على اكثر من مستوى.
وفي المحطة الثانية التي من المقرر الانتقال اليها يفترض أن يكون الحل قد بات في قسم كبير منه في يد المبادرات الخارجية، والتي سيكون عليها الايحاء بكل وضوح إلى القوى التي تشكل «بيضة القبّان» في العملية الانتخابية لحسم الخيارات الرئيسية التي تكون قد تولّدت من خلال بروز مرشحين جُدد لم تسجل اسماؤهم بعد على لائحة مرشحي التحدي أو تلك التي تؤدي الى وجود رابح وخاسر في المواجهة التي انتفَت ظروفها في المنطقة والإقليم ولا يجب ان تبقى لها اي تداعيات في لبنان الذي عليه أن يَنتظِم من ضمن التسويات الاقليمية في ظل المعادلات الجديدة.
ولا يبدو سهلاً للمراقبين ان يستوعبوا مثل هذه «الهندسات الرئاسية» المتوقعة، والتي لن ترى النور في شكلها وتوقيتها ومضمونها سوى بقوة التفاهم الخارجي المتين والمحصّن بقرارات وإرادات جازمة متى تم التوصّل إليها. وهي عملية لا يمكن إنجازها من دون قوة «ترسيم دولية» استثنائية توزّع الادوار والمهمات التي لا بد من بلوغها واستخدامها. وهي التي ستفرض على القوى الداخلية بكل قواها الانتظام من ضمنها بكل هدوء. وكل ذلك يمكن ان يجري بعيداً من رهانات البعض على عبور الاستحقاق بقدرات داخلية عاجزة وربما مفقودة، او اولئك الذين ما زالوا يعتقدون انّ في إمكانهم ادارة المعادلات الخارجية وقيادتها او التأثير فيها وصولاً الى حيث يريدون وربما بما يحلمون به، بدلاً من ان يَنضَووا في كنفها بالسرعة المطلوبة تحتها والبقاء موجودين ومستفيدين من ظلالها.