من الطبيعي تجميد البحث في كل ما يتعلق بالاستحقاق الرئاسي، فقد سلّم اللبنانيون بمختلف فئاتهم أمرهم والمهمّة للموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان، سواء عن قصد أو من دونه. ولما بات الرهان معلّقاً على مهّمته الغامضة، طُرحت الأسئلة عمّا يمكن ان تعكسه الأحداث على الساحة الفرنسية على مصيرها، وما يمكن ان تؤدي اليه؟ وإن لم تتوافر القدرات الفرنسية الكافية، فهل يمكن ان تتنازل عن أدوارها لآخرين؟
لا يبدو انّ هناك حراكاً فاعلًا يمكن ان يغيّر الصورة النمطية التي اكتسبها الاستحقاق الرئاسي، وقد فقدت كل المؤشرات التي توحي بإمكان البحث عن اي خطوة جديدة تضع حداً لمرحلة خلو سدّة الرئاسة، بعدما دخلت البلاد الأيام الأولى من الشهر الثامن لوقوعه. ولذلك توسعت رقعة السيناريوهات التي بُني العديد منها على مجموعة من الرغبات والأمنيات التي ما زالت تتحكّم بمواقف البعض، في ظلّ غياب أي معطيات تتصل بما انتهت اليه المحطة الأولى من مهمّة لودريان والخطوات المقبلة التي يمكن أن يقوم بها.
وإن كانت الأوساط اللبنانية السياسية منها والنيابية، على اقتناع تام بجدّية لودريان، لكنها ما زالت تحتسب لكثير من المعطيات التي تعوق مهمّته وتؤثر في مجراها، مخافة ان تنتهي إلى ما لا يمكن أن تفرضه النظرة الفرنسية للحلول المقترحة، وخصوصاً في حال صدقت المعلومات التي تقول انّ فرنسا لم تغيّر من استراتيجيتها السابقة بعد، على الرغم من العوائق الداخلية والخارجية التي طوتها وجعلت مهمّته في محطة جديدة، ولا يمكنه الإقلاع بها مجدداً ومن حيث انتهت، أو مما كان قائماً قبل ان تطأ قدماه أرض لبنان، وما بعد الحلقة الثانية عشرة من مسلسل انتخاب الرئيس في الرابع عشر من حزيران الماضي.
وفي انتظار أي إشارة فرنسية ما زالت مفقودة على الرغم من مرور عشرة ايام على انتهاء مهمّة الموفد الرئاسي الخاص إلى لبنان، فإنّ المجال ما زال مفتوحاً أمام مجموعة من السيناريوهات المتناقضة، والتي تحفل بها الصالونات السياسية والديبلوماسية. وهي تُقاس بحجم الخيارات المفتوحة أمام مختلف الأطراف في ظلّ التوازن السلبي القائم على مستوى الخريطة النيابية وفقدان الأكثرية الحاسمة التي يمكنها ان تضمن تنفيذ اي خطة تؤدي الى انتخاب اي من المرشحين المطروحين لرئاسة الجمهورية.
وما هو لافت عند الدخول في كثير من التفاصيل التي تحاكي بعضاً من الخيارات المتوقعة، فإنّ بعضاً منها يُبنى على إمكان أن يقدّم الموفد الفرنسي صيغة جديدة مختلفة تماماً عن تلك التي حاولت خلية الأزمة الفرنسية تطبيقها في المرحلة السابقة. وهي الصيغة التي حاولت إنجاز صفقة كاملة تربط بين ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية وبين القاضي نواف سلام لرئاسة الحكومة. فالجميع بات على علم بأنّ هذه الصيغة استجرّت رفضاً مسيحياً واسعاً وعلى اكثر من مستوى سياسي وحزبي وشعبي وربما روحي. وهي مواقف لا يمكنها ان تتجاوز المواقف الدولية الرافضة لها، بالمقدار الذي عبّرت عنه بعض الأطراف المتمثلة في «لقاء باريس الخماسي».
لا تقف النظرة السلبية الى نتائج ما هو قائم من جهود حتى اليوم، وفي مقدّمها المبادرة الفرنسية، ذلك انّ هناك من يرصد مواقف اخرى مؤثرة على الساحة اللبنانية ما زالت غامضة. ولعلّ أبرزها ما يتعلق بالموقف الايراني مما جرى حتى اليوم. وهي امور تتصل بمدى رغبة طهران في تسهيل ما يتصل بالاستحقاق الرئاسي، إن بقيت تنظر اليه على انّه من أوراق القوة التي يمتلكها الثنائي الشيعي، الذي تطمئن إلى جدارته في تعطيل أي مبادرة اخرى لا تخدم طلباته المتعدّدة، مهما عبّرت عن شروط مسبقة يمكن استخدامها في العلاقات القائمة بينه واطراف أخرى ما زالت تعاندها على ساحات المنطقة من لبنان الى سوريا والعراق.
وهي أمور غير خافية على أحد لمجرد انّ «حزب الله» ما زال يعتقد انّ في إمكانه ترجمة ما يسميّها الانتصارات التي حقّقها محور الممانعة في المنطقة، والتي تمّت ترجمة جزء منها في «اتفاقية بكين» ما بين طهران والرياض، وما يمكن ان تقود اليه من تفاهمات ما زالت بعيدة من الساحة اللبنانية على الأقل. ولذلك، فإنّ التأخير في بلوغ هذه التفاهمات الساحة اللبنانية ما زال يبرّر ويفسّر حجم الخلل في التوازنات الداخلية ومظاهره، بطريقة تعطي محور المقاومة القدرة على التعطيل، ليس لإمساكه بالكتلة النيابية الشيعية بلا منازع فحسب، بل لأنّ الثنائي الشيعي يُمسك ايضاً ويتحكّم بأي دعوة للمجلس النيابي وإدارة اي جلسة انتخابية مطلوبة لإتمام الاستحقاق.
عند هذه المعطيات، تداولت الأوساط الديبلوماسية في الساعات الماضية معلومات شبه مؤكّدة، عن انّ تراجع الموفد الرئاسي الفرنسي عن اي جزء من مبادرته السابقة سيؤدي إلى «بلوك» نهائي سيعتمده «الثنائي الشيعي» تجاه اي طرح آخر، ما لم يوفّر له أي مشروع بديل الأهداف عينها التي جعلته يرحّب بالمبادرة الفرنسية، التي أعطته ما لم يكن بقدرته تنفيذه لو بقيت اللعبة الداخلية قائمة على ما انتهت اليه التحالفات والتقاطعات، التي حرمت الفرنسيين وحلفاءهم في الداخل، من تحقيق ما جاهدوا من أجله لأشهر عدة امتدت منذ مطلع السنة على الأقل.
وبناءً على ما تقدّم، لا تخفي المصادر الديبلوماسية التي ترصد الحركة القائمة على مختلف المستويات المحلية والاقليمية والدولية، المعوقات التي عبّرت عنها أكثر من دولة من ضمن لقاء باريس الخماسي. فالمعلومات التي كانت متداولة في الكواليس، عن رفض قطر للمبادرة، مدعومة بموقف اميركي وسعودي غير معلن، بات على قاب قوسين او أدنى من الظهور العلني، وربما تمّ ذلك في وقت قريب. فالمشاورات الجارية من أجل مناقشة ما يمكن ان ينتجه لودريان، ستكون المادة الوحيدة لأي اجتماع على هذا المستوى، بعدما طال انتظاره لأكثر من ثلاثة أشهر، وقد ضربت المواعيد لاجتماعاتها وانهارت واحدة بعد أخرى.
وختاماً، وبعيداً من كثير من التفاصيل التي يمكن التطرّق إليها كاملة، تخشى المراجع الديبلوماسية ان تصطدم المبادرة الفرنسية هذه المرة بمعوقات كبيرة، ترفع من حجم المسؤوليات الملقاة على عاتق معدّها، لتنتقل الى مستويات أعلى، بعدما تبين انّ موضوع انتخاب الرئيس ليس سوى الستارة التي تخفي خلفها مطالب اخرى تتعدّى لائحة الأسماء المطروحة للمشاركة في السباق الى قصر بعبدا وملء الشغور، إلى مرحلة اعادة النظر في النظام وتغيير آليات عدة على مستويات الحكم. وهو امر لا يمرّ بسهولة، ويفرض الحديث عنه فور ظهوره إلى العلن، تحرّكاً اقوى قد تقوده المملكة العربية السعودية قبل غيرها، وخصوصاً إن بلغ ما هو مطروح نسف الأطر التي أرساها «اتفاق الطائف» على مستويات عدة ومن زوايا مختلفة، بحثاً عن تسوية جديدة، من دون ان يظهر انّ أياً من القوى الاقليمية والدولية مستعدة للبحث فيها من خارج الرغبات السعودية.