عن زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان أيضا وأيضا، فقد أسمع بعض الذين التقاهم اللبنانيين ما سألهم الرجل، لكنهم لم يسمعوهم ماذا أجابوا على أسئلته، بل ذهبوا الى نسج تفسيراتِ وتحليلات متخلية عما يحمله في جعبته من مثل أن فرنسا تخلت عن مبادرتها وانها في طور التحضير لإطلاق «مبادرة جديدة» تنسفها.
والواقع أن هؤلاء وكثير من الراسخين في «علم» الاستحقاق الرئاسي يدركون ان المبادرة الفرنسية القائمة على معادلة سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية ونواف سلام او الرئيس تمام سلام لرئاسة الحكومة التي ما تزال مستمرة، وفهي ليست مبادرة فرنسية بالمعنى الضيق للكلمة وانما هي مبادرة صيغت في كنف المجموعة العربية ـ الدولية الخماسية أو على الاقل في كنف ثلاثة من اطراف هذه المجموعة هي الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا والمملكة العربية السعودية، حيث ان قطر ومصر لديهما بعض التباين في الموقف منها، خصوصا في الشق المتعلق برئيس الجمهورية بحيث انهما لا تحبذان انتخاب فرنجية وانما تحبذا انتخاب قائد الجيش العماد جوزف عون على رغم من ادراكهما الصعوبات التي تحول دون انتخابه لأن الظروف الراهنة تختلف عن الظروف التي كانت سائدة عام 2008 التي فرضت انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية على رغم من عدم دستورية هذه الخطوة التي كانت تجاوزا فاضحاً للدستور الذي يحظر انتخاب اي موظف من الفئة الاولى في الدولة ما لم يكن مستقيلا من وظيفته قبل سنتين من موعد انتخاب رئيس الجمهورية.
ولكن في انتظار عودة لودريان وما سيحمله معه من افكار واقتراحات حلول يمكن ان يكون قد صاغها في ضوء المواقف الكثيرة والمتناقضة التي سمعها من الافرقاء اللبنانيين الذين التقاهم في زيارته الاخيرة، فإن سيل التكهنات حول المبادرة الفرنسية ومآل الاستحقاق الرئاسي لم ينقطع، خصوصا وان بعض القوى تسوق في هذا المضمار ما يخدم مواقفها ومصلحتها، معتقدة انها يمكن ان تعدل في خريطة الطريق التي يعمل عليها الموفد الفرنسي وتشكل المبادرة الفرنسية ابرز مرتكزاتها. فهذه المبادرة كانت ولا تزال، في رأي المطلعين على هي اساس الحل المنشود، حتى ولو جلس الأفرقاء أو أجلِسوا الى طاولة حوار للبحث في مصير الاستحقاق في اتجاه ابرام صفقة حل متكامل يشمل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والحكومة وبرنامجها السياسي والاصلاحي.
ويقول هؤلاء المطعون ان جميع الافرقاء يدركون من الآن طبيعة الحل الذي سينقادون اليه، ولكن بعضهم يحاول بتصعيد من هنا وتهدئة من هناك خلق بعض الظروف التي يمكن ان تقنع رعاة الحل بتغيير بعض مندرجاته وشروطه بما يخدم مصلحتهم، لكن «الغموض البناء» الذي يلف مواقف اصحاب المبادرة يضع هؤلاء الأفرقاء في حال من الإنتظار أوالإرباك.
وفيما الحال الانتظارية تسود أوساط بعض التغييريين والمستقلين والكتل التي لم تقترع في الجلسة الاخيرة لفرنجية وللوزير السابق جهاد ازعور، فإن «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» ما زالا يرفعان صوت الرفض لترشيح فرنجية والتقاطع على ترشيح أزعور، ولكن يدور بحث في اوساط كل منهما حول ما هو مطروح من إحتمالات سواء داخلياً أو على مستوى المجموعة الخماسية عموماُ وعلى مستوى واشنطن وباريس والرياض خصوصاً. ويتزامن كل هذا مع التداعيات المستمرة للإتفاق السعودي ـ الإيراني والتطورات المضطردة التي تشهدها العلاقة السعودية ـ السورية بعد عودة سوريا الى جامعة الدول العربية، فضلا عن التطورات الجارية على مستوى العلاقات الأميركية ـ الإيرانية والحديث المتصاعد عن أحتمال جدي لحصول إتفاق قريب على الملف النووي الإيراني في ظل ما تشهده سلطنة عمان من مفاوضات ووساطات في هذا الإتجاه، حيث يتكهن كثيرون في أن حصول مثل هذا الإتفاق ستكون له تداعيات ايجابية ومهمة جداً على مستوى المنطقة.
ويكشف المطلعون ان «التيار» و«القوات» الطامحين الى تأكيد «احقيتهما» في ان تكون لهما اليد الطولى في إختيار رئيس الجمهورية العتيد، كونهما الكتلتين النيابيتين المسيحيتين الاكبر، يدركان في الوقت نفسه انهما لا يستطيعان الاستمرار طويلا في موقف الرفض وتعطيل الاستحقاق الرئاسي نتيجة معارضتهما وصول فرنجية الذي ثبت لدى غالبية المهتمين بهذا الاستحقاق الرئاسي انه الشخصية التي تليق بالمرحلة الراهنة داخليا واقليميا، حيث يؤكد هؤلاء ان تمسك الثنائي الشيعي بدعم ترشيحه لا ينطلق فقط من تحالفه السياسي معه فقط وانما مما يراه الثنائي فيه من مزايا وما يستطيع ان يقدمه من تطمينات وضمانات على المستويين الوطني والاستراتيجي، كذلك ينطرق الثنائي في دعمه لفرنجية من معطيات متينة لديه عن صدقية بعض المواقف العربية والدولية التي يجد اصحابها في فرنجية المزايا والمواصفات المطلوبة للمرحلة بشقيها اللبناني والاقليمي. ولذلك يبدو الثنائي اكثر اطمئنانا في المعركة السياسية التي يخوضها لتأمين وصول فرنجية الى سدة الرئاسة مهما طال امد الفراغ الرئاسي، وهو ليس في وارد البحث في «خطة ب» والمحيد عن الرجل خلافاً لكل ما يشيعه خصومه وغير الخصوم. علما ان التطورات الجارية تظهر ان «الثنائي» هو الطرف الأكثر إلماما واطلاعا على مسار الامور والمواقف الخارجية حيال الإستحقاق الرئاسي، فضلاً عن انه الأكثر غنىً بالمعطيات والمعلومات المتعلقة بما سيؤول اليه مصير هذا الاستحقاق.
ويكشف المطلعون انه قبيل مغادرة ماكرون حصل «اتفاق جنتلمان» بينه وبين المعنيين على ان لا يدعو رئيس مجلس النواب نبيه بري الى جلسة انتخاب رئاسية جديدة قبل عودته الى بيروت، ما يعني ان محاولات البعض لتسويق ترشيح الوزير السابق زياد بارود الذي تربطه صداقة بالفرنسيين علّهم يعدلوا في المبادرة الفرنسية ويستبدلوه بفرنجية لم يكتب لها النجاح لانهما اصطدموا بتمسك الثنائي بدعم ترشيح رئيس تيار «المردة» .
وفي هذا السياق يدور حديث في بعض الاوساط السياسية عن ان بحثاً جدياً وعلى مستوى رفيع يتوقع ان يبدأ في أي وقت بين قيادتي «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» لمقاربة الخيارات المطروحة حول الاستحقاق الرئاسي في ظل تمسك الطرفين بالتفاهم القائم بينهما خلافاً لما يشاع عن انتهاء هذا التفاهم، وهذه المقاربة قد تشمل الضمانات والتطمينات المتبادلة التي يفرضها الاستحقاق ومآلاته.