من الخطأ اعتبار أنّ المشهد السياسي استُكمل مع اعلان رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس حزب «القوات اللبنانية « سمير جعجع ورئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل مواقفهم على التوالي. صحيح انّ هذه المواقف الثلاثة تضمنت هجمات سياسية حادة وكشفت أكثر فأكثر عن حدّة النزاع الدائر، الّا أنّ التعبير الأكثر دقّة هو في اعتبار هذه المواقف المؤشر الفعلي لبداية مرحلة جديدة ستشهد مواجهات عنيفة على كافة المستويات، خصوصًا الدستورية منها، وايضًا على مستوى الشارع، ومن دون الالتفات إلى حجم الخسائر التي ستلحق باللبنانيين وبما تبقّى من أشلاء دولتهم.
والانطباع الغالب هو أنّ الرئيس نبيه بري لن يحدّد جلسة مخصّصة لانتخاب رئيس للجمهورية طوال شهر ايلول الجاري، وسيعمل على ملء الوقت الضائع بالدعوة إلى تشريعات أساسية مطلوبة من صندوق النقد الدولي. لكن ثمة سببًا اضافيًا لدى بري ويتعلق بعدم اكتمال حظوظ سليمان فرنجية، وفي الوقت نفسه عدم اتفاق الكتل النيابية المعارضة له على اسم موحّد قادر على الفوز.
وسيظهر لاحقًا وبعد ان يدعو بري في النصف الثاني من شهر تشرين الاول إلى جلسة لانتخاب الرئيس، بأنّ التوازن السلبي الموجود من خلال حيازة الثلث النيابي المعطّل بين الفريقين السياسيين داخل مجلس النواب، سيقف حائلًا أمام اكتمال شروط تأمين انتخاب رئيس للجمهورية. فرنجية لديه نقاط ضعف عدة ابرزها على الاطلاق رفض جبران باسيل دعمه إلّا في حال الموافقة على لائحة شروط تجعل من فرنجية رئيسًا صوريًا، وهذا يناقض شخصية فرنجية. أضف إلى ذلك انّ بري كما جنبلاط يعارضان كليًا تكرار تجربة باسيل في السلطة ولو بحلّة جديدة.
والفريق المقابل لديه الكثير من نقاط الضعف ايضًا، فهو من أطياف متعددة ومختلفة إلى حدّ التناقض في بعض المسائل. صحيح انّ اتفاقًا مبدئيًا حصل على مقاطعة جلسة ستؤدي إلى انتخاب مرشح حليف لـ»حزب الله»، الّا انّ ذلك حصل بعد جهد جهيد ومساعٍ تقارب المعاناة.
وهو ما يعني استحالة الاتفاق على مرشح واحد جدّي. والتوازن السلبي، اي التوازن في التعطيل، لا ينتج رئيسًا للجمهورية في طبيعة الحال.
وقد لا يكون من باب التجنّي القول إنّ هنالك من يرغب بالذهاب الى الشغور الرئاسي ويدفع في اتجاهه ولو تحت أعذار مختلفة، لاعتقاده انّ الشغور الرئاسي سيعيد خلط الاوراق الرئاسية وبالتالي استعادة حظوظه. ووفق ما تقدم، فإنّ احتمالات حصول انتخابات رئاسية في موعدها ضعيفة جداً. لكن الاخطر ما قد يحصل مع اقتراب انتهاء ولاية العماد ميشال عون وتلويح اكثر من طرف باستعمال الشارع. والواضح هنا انّ الهدف الفعلي هو لتحسين المواقع في المعادلة وليس لأي شيء آخر.
والتجارب التاريخية حافلة بالكوارث التي كانت تنتج من السعي لإثبات الذات في الشارع، والتي كان آخرها واقعة الطيونة المشؤومة.
والظروف ليست مختلفة كثيرًا لناحية الانهيارات المالية والحياتية والاقتصادية، أضف إلى ذلك رفع منسوب الاحتقان السياسي الذي تمارسه الاطراف السياسية عن سابق تصور وتصميم.
اوساط ديبلوماسية تعتقد انّ ضغطاً في النصف الثاني من تشرين الاول، اي قبل اسبوعين من انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، قد يؤدي إلى حكومة جديدة او على الاقل إعادة منح حكومة تصريف الاعمال الثقة النيابية.
ووفق حسابات هؤلاء، فإنّ مشارفة العهد على نهايته وتفاقم الأزمات وانفتاح ابواب المخاطر على مصراعيها، إضافة إلى ضغوطات خارجية، قد تدفع رئيس الجمهورية إلى صرف النظر عن حكومة جديدة تعطي باسيل الثلث المعطل، وهو ما يرفضه بقية الاطراف، كما تجعل الرئيس نجيب ميقاتي اكثر مرونة لحفظ ماء وجه رئيس الجمهورية.
نظريًا قد يكون ذلك ممكنًا، لكن على ارض الواقع تبدو الامور اكثر تعقيداً. فالاطراف تستعد لاستخدام كافة اوراقها والاسلحة القادرة على استخدامها لمتابعة «الحرب» في مرحلة الشغور الرئاسي. وخلال مؤتمره الصحافي الاخير، وعلى الرغم من «هجومه» الناعم، بدا جبران باسيل وكأنّه يعاني من العزلة والوحدة، مع شيء من القلق المكتوم.
عرض اكثر من مرة التحاور حول الواقع المأزوم والتشارك في الاتفاق على الرئيس المقبل. وفي الوقت نفسه لمّح إلى الخطوات التي سيتخذها، كمثل استنكاف الوزراء المحسوبين عليه عن اي مشاركة وزارية، وهو ما سيعطّل عمل مجلس الوزراء ويمنعه من اصدار أي قرار او مرسوم، بحجة انّ صلاحيات رئيس الجمهورية تنتقل إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، اي يصبح كل وزير «ميني» رئيس. لكن ميقاتي الذي يدرس هذه المرحلة مع بري ووليد جنبلاط، يتجّه لإصدار المراسيم مكتفيًا بتواقيع رئيس الحكومة ووزير المال والوزير المعني، بحجة استمرار عمل مرافق الدولة وهو ما يلزمه الدستور. وهو ما سيعني غياب التوقيع المسيحي للمرة الاولى منذ تاريخ نشوء لبنان، عن القرارات الرسمية، وبالتالي فإنّ قطع الطريق على الانزلاق في هذا الدهليز المظلم هو الاقتناع بتشكيل حكومة لا تلحظ الثلث المعطّل لأحد، او إعادة تجديد الثقة بالحكومة الحالية، والّا فسنكون امام المساهمة في توجيه ضربة جديدة للشخصية السياسية المسيحية في الدولة، وهذا يشبه ما حصل في مرحلة العام 1989-1988، والذي فتح الطريق امام الاهوال ومن ثم إقرار «اتفاق الطائف».
لا بل انّ ميقاتي وتحت وطأة تراجع التغذية الكهربائية إلى الصفر في مقابل ارتفاع جنوني في تسعيرة المولدات، سيعمد إلى تعيين الهيئة الناظمة تمهيداً للتوصل إلى استعادة تغذية كهربائية لأكثر من 9 ساعات. والواضح انّ تحضيرات تجري في الكواليس في هذا الاتجاه، وكان لافتاً «العتب الناعم الذي وجّهه باسيل إلى الامين العام لـ»حزب الله» في موضوع الكهرباء حين تساءل ما إذا لم يعد هنالك حصار على لبنان؟
وبالتالي، فإنّ باسيل لمّح إلى موافقة «حزب الله» على تعيين الهيئة الناظمة كمدخل لبدء معالجة ملف الكهرباء.
في الواقع، هنالك حاجة ملحّة لاستعادة التغذية الكهربائية ولو جزئياً، بما يساعد الناس في التخفيف من معاناتهم، ويتيح للقطاعات الانتاجية الاخرى، اضافة إلى الرسمية، استعادة شيء من حضورها. وربما يريد فريق بري ـ ميقاتي التخفيف من بعض الكوارث، كون الشغور الرئاسي، وبخلاف حسابات البعض، لا ينتهي الّا بتسوية اقليمية ـ دولية وعلى الحامي. وهذا ما يرويه تاريخ لبنان منذ دخول العماد ميشال عون إلى الحياة السياسية في العام 1988.
ووفق هذه الحسابات قد يكون هذا الفريق ومعه «حزب الله» يتوقع شغورًا رئاسياً لأكثر من سنة لكي تنضج الظروف الاقليمية، ما سيسمح بتمرير تسوية في لبنان. لكن الاوساط الديبلوماسية الغربية، والتي توافق على انّ لبنان سيدخل مرحلة الشغور الرئاسي، لا تعتقد انّ هذه المرحلة قد تطول اكثر من اشهر معدودة قد لا تتجاوز الستة، لأنّ لبنان لم يعد يستطيع تحمّل فترة طويلة.
اياً يكن الجواب الصحيح، الّا انّ الواضح أنّ لبنان دخل المرحلة الصعبة.