بعد ايام يحلّ «تشرين» في كل المواقع الدستورية، ومعه مجموعة من الاستحقاقات التي تنوء تحتها الجبال، بالنظر إلى تنوعها، من حكومية وتشريعية ومالية ونفطية وتربوية. وفي ظلّ فقدان «الأكتاف» التي ثبت بالوجه الشرعي عجزها عن تحمّل مسؤولياتها وأعباء ما هو مطروح، إرتفع منسوب القلق على الحاضر والمستقبل، نتيجة الأزمات المتناسلة. وعليه، طُرح السؤال، هل سيحظى استحقاق انتخاب الرئيس بـ «يوم تشريني» من أيامه؟
عندما كان الصالون السياسي يعج بالديبلوماسيين والسياسيين في مناسبة اجتماعية، سأل أحدهم عن إمكان العثور عن يوم من ايام السنة، وقد خلا من مناسبة تعيد اللبنانيين إلى مجموعة الأزمات والأحداث التي عبرت بكل تداعياتها المناطقية او الوطنية. ففي اجندة احدهم، إشارة إلى وجود بعض الايام الخالية من مناسبة تحيي ذكرى محدّدة في نفوس جزء من اللبنانيين او جميعهم على حدّ سواء. وعند البدء في إحصائها المستحيل، ولو عفوياً اتكالاً على الذاكرة، دعا أحد السياسيين المحنكّين إلى ترقّب تشرين الاول المقبل الذي يحلّ بعد ايام، في ظلّ مجموعة الاستحقاقات الكبرى المطروحة على الطاقم السياسي في البلاد، وتحديداً ممن يمسكون بناصية السلطة من أطرافها المختلفة. وخصوصاً انّ من بينها ما هو مؤجّل بسبب العجز عن إنجازها لاسباب مختلفة، تتراوح بين الفشل في حلّها، او تلك التي قادت المناكفات إلى تغييبها اياً كانت التردّدات التي تركتها.
على خلفية هذا النقاش المفتوح بوشر الفرز في ما بينها. فتوقف المجتمعون امام بعض ما يمكن احتسابه من المحطات الكبرى، قياساً على حجم التعهدات التي قُطعت أمام المجتمعين العربي والدولي. وأُحصيت من بينها الاستحقاقات الكبيرة المؤجّلة، والتي حُشرت في الاسابيع القليلة المتبقية من العهد، اعتقاداً من البعض أنّ هناك متسعاً من الوقت لمواجهتها او انّ العهد ما زال في بداياته ولا حاجة للاستعجال في التنفيذ. ولذلك، فقد انحصرت المناقشات بهذه الفئة منها، ومن بينها تلك التي تجاوز فيها المسؤولون كل المِهل المحدّدة او المفتوحة التي ما زالت تتفاعل وتلقي بتبعاتها الخطيرة على حياة اللبنانيين وعلى علاقات الدولة بالعالمين العربي والغربي والجهات المانحة، وتلك التي عبّرت طوال العقود الماضية عن استعداداتها لمساعدة اللبنانيين على تجاوزها، من دون أن يلاقيها أحد من لبنان في منتصف الطريق، إلى ان وقعت الواقعة في مرحلة ضاعت فيها المسؤوليات بين اكبر المراجع المالية الحكومية وفي القطاع المصرفي.
وإن قادت هذه المعادلة إلى استذكار بعض المحطات الكبرى، فقد ذكّر أحدهم بما تعهّد به المسؤولون اللبنانيون في مجموعة مؤتمرات باريس الثلاثة قبل «سيدر واحد»، وفي اكثر من مناسبة، امام مجموعة الوفود السياسية والمالية والديبلوماسية التي زارت لبنان، بإنجاز بعض ما هو مطلوب منها، ولم يف اي منهم بوعوده. ولم ينفع مسلسل التنبيهات والتحذيرات التي تلقوها بصراحة حادّة، فتجاوزوا ما تعرّضوا له من إهانات احياناً، وطويت رسائل التحذير في جوارير غميقة، بالنظر إلى حجم العجز والفشل المتأتي من المناكفات بين المصالح الآنية والظرفية التي تحكّمت بكثير منها.
وبهذه الطريقة – قال أحدهم ـ لقد قدّم المسؤولون للداخل والخارج افضل إنموذج للعقم السياسي المؤدي إلى استحالة استعادة نوع من الثقة المفقودة بالدولة ومؤسساتها وأجهزتها المختلفة، فانكفأوا إلى تبادل الاتهامات في ما بينهم، وسيلة للتبرؤ منها، من دون إقناع اللبنانيين بما يبرّر الفشل في تحمّل مسؤولياتهم، فانقادت البلاد إلى درجات من الانهيار غير المسبوق.
وإلى مسلسل التعهدات التي سقطت المِهل في شأنها تجاه ما تقرّر من مساعدات للبنان، مشروطة بوقف ولجم كل أشكال الفساد وعدم الإقدام على اي خطوة اصلاحية تخدم بلداً يعيش الأزمة المالية والنقدية التي تفجّرت بعد انتفاضة 17 تشرين 2019، جاءت جائحة «كورونا» لتعطي مبرّراً لا يعفيها من مسؤولياتها ولو أمام المرآة الخاصة بهم. واكتمل عقد النكبة بتفجير مرفأ بيروت في 4 آب، فعملت المنظومة ما في قدرتها لتجاوز المسؤوليات الملقاة على عاتقها عن حجم الإهمال الذي أدّى إلى ما ادّى اليه. وكذلك اكتمل العقد باستمرار الأزمات الحكومية، بعد ان تفاعلت خطوة حكومة الرئيس حسان دياب بتجميد دفع الاستحقاقات المالية تجاه المؤسسات الدولية، ووعدت بمفاوضات مع حاملي «اليوروبوندز» والدائنين الى أجل لم يتحقق بعد مرور أكثر من عامين ونصف عام.
وإن انتقل البحث إلى الاستحقاقات الاخيرة، وخصوصاً تلك التي أعقبت انجاز الانتخابات النيابية في 15 ايار الماضي، فقد بقي الملف الحكومي مفتوحاً طوال الاشهر الاربعة الاخيرة، من دون النظر إلى اهمية وجود حكومة بكل المواصفات الدستورية، لمجرد عدم الاتفاق على التغييرات المقترحة على تركيبتها ولو بوزيرين او ثلاثة او اربعة، في وقت لم ينه مجلس النواب البت بأبسط الخطوات التي فرضها توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في نيسان الماضي على مستوى الموظفين، سوى بتعديل قانون السرية المصرفية بطريقة حمتها الآليات المنصوص عنها، بقانون ردّه رئيس الجمهورية لأسباب مختلفة، ولم يُبت لا بخطة النهوض والتعافي، على الرغم من وضع أكثر من ورقة تزاحمت فيها الآراء المتناقضة، إلى درجة يصعب فيها أمام اي خبير مالي واقتصادي بجمعها في اقتراح واحد، فاستحال إصدارها، في وقت ما زال مجلس النواب يدرس موازنة أقل ما يُقال فيها انّها لا تحمل اسمها لا في شكلها ولا في مضمونها، وقد افتقدت إلى اكثر من قرار مالي متلازم مع إصدارها، ولا سيما ما يتعلق بقطع الحساب المفقود منذ العام 2017.
وبعيداً من الدخول في مزيد من التفاصيل، وإن انتقل البحث إلى اخرى، فقد صحا المسؤولون اخيراً على ضرورة تشكيل حكومة، وسط مزيد من الشروط والشروط المضادة التي استحالت عجزاً في تأليفها، في مرحلة دخل فيها المجلس النيابي مرحلة تحوّله هيئة ناخبة لانتخاب الرئيس العتيد للجمهورية. فكيف بإمكانها ان تُشكّل وتُعدّ بيانها الوزاري وتنال ثقة المجلس النيابي الجديد وسط نقاش دستوري عقيم بضرورة إتمام العملية قبل نهاية ايلول الجاري، فيما يقول آخرون، انّ من الواجب اتمامها قبل ان يدعو الرئيس نبيه بري إلى اولى جلسات انتخاب الرئيس، وآخرون يعطون ذلك مهلة إلى الايام العشرة الاخيرة الفاصلة عن نهاية الولاية.
وعلى خلفية هذا الجدل البيزنطي الذي لا نهاية حتمية له، سُئل أحدهم عن امكانية تحديد يوم لانتخاب الرئيس وسط الشروط التي وضعها رئيس مجلس النواب، فقاطع سائله وقال: لا تنسى مسلسل المواصفات الرئاسية التي انطلقت من الداخل والخارج وفي الكواليس الديبلوماسية التي أسقطت حتى الآن مجموعة المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية، بين قائل برئيس على خلفية سيادية وآخر على خلفية سياسية توافقية او على خلفية اقتصادية ومالية، لمواجهة الأزمات المطروحة على اللبنانيين. ولذلك ضاعت الطاسة إلى درجة بات فيها البحث عن يوم لانتخاب الرئيس من ضمن المهلة الدستورية، انجازاً تاريخياً غير مسبوق يستحق الدخول في كتاب «غينيس»، قبل ان ينبت العشب مجدداً امام مدخل قصر بعبدا وتسقط كل المشاريع الإنقاذية وتنقاد البلاد إلى مرحلة قد تكون الأخطر على مصير الدولة ووحدة مؤسساتها وحتى بلوغها الكيان.