قبل أشهر قليلة من موعد الانتخابات الرئاسية، تبدو الصورة غامضة أكثر من أي يوم مضى. فالحصان الذي بدا أنّه الأقرب إلى بلوغ الموقع، أي النائب جبران باسيل، أبعدته الضغوط العربية والعقوبات الأميركية، ومعه ابتعد رهان الرئيس ميشال عون على تكرار نسخة من العهد 6 سنوات أخرى، ومعه أيضاً خسر الحليف الشيعي هذه الفرصة. ولذلك، يترسَّخ اقتناع بأنّ عون قد يلجأ إلى خطة تمديدٍ، لعام أو اثنين، ريثما تكون العوائق قد زالت من أمام «الخَلف الآمِن».
إذا وقعت الانتخابات النيابية في أزمة، فستكون الانتخابات الرئاسية حتماً في خطر. وليس سرّاً أنّ كلاماً متزايداً على تطيير الانتخابات النيابية والرئاسية معاً يتردَّد في الكواليس. ويوماً بعد يوم، يتزايد الخوف لدى قوى السلطة من صدمة تتلقّاها في الاستحقاق الربيعي. وهو ما قد يدفعها إلى التفكير في التأجيل. والمخارج كثيرة وسهلة التنفيذ، من العوائق المالية والإدارية الناتجة من الانهيار إلى الضرورات الأمنية.
منظومة السلطة تنشغل اليوم بنزاعاتها الداخلية، وتحديداً بين عون وبري، وبينهما يحاول «حزب الله» التقاط العصا من وسطها. لكن القوى الثلاث تشعر بأنّ المغامرة خطرة في 15 أيار، وأنّ المفاجآت فيها واردة، بسبب الضغط العربي والدولي الداعم للتغيير، والذي بلغ مستوياتٍ غير مسبوقة.
ويدرك «التيار الوطني الحرّ» أنّ ظروف الانتخابات المنتظرة لن تسمح له بتحصيل الـ29 نائباً مرة أخرى، ليكون التكتل الأكبر في المجلس النيابي، كما في 2018، قبل أن يتقلّص العدد إلى 22. ولذلك، ليس مستبعداً أن تتقاطع مصالح «التيار» وحلفائه على تطيير الانتخابات.
بل إنّ «التيار» قد يكون صاحب المصلحة الأولى في ذلك، لأنّ تطيير الانتخابات النيابية يشكّل المدخل الأنسب إلى تطيير الانتخابات الرئاسية، فيصبح التمديد أمراً واقعاً لتجنّب الفراغ في موقع الرئاسة وتأمين استمرار المرفق العام. وهو ما لوّح به المحيطون بعون مراراً منذ سنوات.
يتصوَّر البعض أنّ سيناريو التطيير ربما يبدأ مثلاً من تعثُّر اقتراع المغتربين، قصداً أو بسبب انعدام التمويل بضغط من الثنائي الشيعي. فيردُّ «التيار» باعتبار اقتراع المغتربين جزءاً إجبارياً من العملية الانتخابية، من دونه تفقد شرعيتها. وهكذا، تتعطّل العملية الانتخابية برمّتها.
في هذه الحال، يتوقع بعض المتابعين أن تتبرَّع قوى المعارضة المتحمّسة لإجراء الانتخابات، بدعمٍ عربي ودولي، بسدَّ ثغرة التمويل من خلال تبرعات سخيّة تكفي لإنجاز العملية في بلدان الاغتراب. وربما تعرض أيضاً تغطية أكلاف العملية الانتخابية على الأراضي اللبنانية، ببضع عشرات من ملايين الدولارات، لانتزاع ذريعة التعطيل.
ستصاب قوى السلطة بالإحراج إذا تقدَّم المعارضون بهذا العرض السخيّ، فهي لا تستطيع رفضه. ولذلك، على الأرجح، ستعتمد أحد أسلوبين مضمونين:
1- إفتعال شلل إداري كامل من خلال موجة إضراباتٍ تعصف بالقطاع العام، وتُرفع خلالها شعارات مطلبية قاسية، وربما نزول إلى الشارع لا يخلو من الحدَّة. وهذا أمر سهل جداً، وتظهر نماذجه كل يوم في الفترة الأخيرة، بعدما انتقل الحراك المطلبي إلى أيدي نقابات تمسك بها السلطة وتديرها بدقّة، وفي شكل مباشر.
2- الارتكاز إلى المخاوف الأمنية. وهو أمر وارد، لكنه طبعاً يُترَك «آخر خرطوشة»، في حال تعذُّر استخدام الأساليب الأخرى.
ويتوقع بعض المتابعين، أن يعمد فريق عون السياسي إلى إطلاق حملة صاخبة يعلن فيها رفضه التمديد للمجلس، أياً كانت الذرائع، ويتّهم فيها خصومه داخل السلطة بالتهرّب من الاستحقاق. ثم يرفع العنوان الآتي: المجلس النيابي الممدَّد له مشكوك في شرعيته. وهكذا، سيتمّ إخراج المطالعات الدستورية والقانونية التي أعدَّها بعض الحقوقيين المحيطين بعون منذ مدة طويلة، وهي جاهزة لتكون غبَّ الطلب حين تدعو الحاجة إلى استخدامها.
وسينادي فريق رئيس الجمهورية بالتمديد له إلى ما بعد انتخاب المجلس الجديد. إذ ليس مقبولاً أن يتولّى مجلس نيابي منقوص الشرعية، وممدّد له لعامٍ مثلاً، تحت عنوان الظروف الاستثنائية، انتخاب رئيس كامل المواصفات الشرعية لـ6 سنوات، في مرحلة يمكن اعتبارها تأسيسية للبنان.
ويمكن أن يعمد هذا الفريق إلى استثمار تشكيك المجتمع الدولي بالمجلس الحالي واعتباره حامياً للفساد، ليدعم مطالبته بإجراء انتخابات نيابية قبل الانتخابات الرئاسية، بحيث يقوم المجلس «النظيف» بانتخاب الرئيس الجديد، والحامل مشروع الإنقاذ.
الصورة على وشك أن تتبلور في الأسابيع المقبلة: انتخابات للجميع أو لا انتخابات لأحد! والهامش أمام الانتخابات النيابية بات ضيّقاً زمنياً. وإذا تبيّن أنّ قوى السلطة تدفع بها إلى التأجيل، بأي ذريعة كانت، فهذا يعني أنّ «الفيلم» الكبير قد بدأ.