يصرّ المتمسّكون بالكراسي على القيام بحركات توحي بأنّهم غيارى على المصلحة العامة، وبأنّهم يبذلون جهوداً جبارة ويقارعون المستحيل في لقاءات فيها «قرقعة الطناجر» أقوى من عصف الأفكار… وهكذا شهدنا في نهاية العام حوارات بالمفرق جاءت لتعوض فشل رئيس مجلس النواب نبيه بري، قبل الأعياد في جمع الكتل النيابية حول طاولة حوار، عوضاً عن اجراء جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، يكون مصيرها كسابقاتها.
والمثير للاستهجان من المتمسكين بالكراسي أنّ اجتماعاتهم، وهم الذين لم يتركوا في بعضهم البعض ستراً مغطى، هي للبحث في سبل التوافق على صيغة تقاسم ومحاصصة تلبي شؤون أطماعهم وشجونها، وعلى ما يبدو لم يعثروا عليها حتى الساعة، ما يعني أنّ المحاولات لا تزال تحتاج إلى مزيد من الولائم على موائد وسطاء الصفقات الدسمة. وبالطبع لا علاقة للدستور وللقوانين بكل هذه الحركات ولا بأصحابها، أو بأي مآخذ جدية على دور أي من القوى السياسية التي تعرف من أين تؤكل اكتاف المال العام والخاص.
فالمنافسة والاتهامات المتبادلة بين القيادات، لا تلغي خصوصية البحث بالمصالح الفعلية التي تجمعهم، ويشكل المسّ بها انتهاكاً لا يمكن السماح به بذريعة «الحقوق المقدسة للطوائف اللبنانية» التي يختزلونها بأشخاصهم فقط لا غير. وتجدر الإشارة إلى أنّ كل هذه الحركات المكتوب عليها أن تبقى بلا بركة ليست فريدة في الحياة السياسية اللبنانية، فقد شهدنا سوابق كثيرة مهدت لما نحن فيه، باكورتها كانت استقالات وزراء حركة «امل» و»حزب الله» لتحويل حكومة فؤاد السنيورة إلى بتراء. ومعروف أنّ هذه الاستقالات، ومن ثم الاعتصام في وسط بيروت، وبعدها هجوم «الحزب» وحركة «أمل» على العاصمة اللبنانية، كلها أحداث مهدت لـ»اتفاق الدوحة»، وكرست غلبة الطائفة على الدولة بمعزل عن الدستور والقانون.
صحيح أنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري نفّذ في حينه، خطة «حزب الله» من خلال رفعه شعار «الميثاقية الطائفية»، فقط لتسليم لبنان إلى محور الولي الفقيه. والصحيح أيضاً أنّ هذه الميثاقية لم تكن لتتكرس لولا غطاء مسيحي، أمّنه ميشال عون ومن خلفه جبران باسيل، وإلا لما نجح «الحزب» في مخططه هذا، ولما أطاح بمفاعيل المؤسسات وقوانين الدولة التي بقيت حبرا على ورق. واليوم، يعود مشهد مماثل لتغليب المصالح الخاصة لأصحاب الحركات، وذلك على الرغم من الاختلافات العمودية في ما بينهم… حتى إشعار آخر.
والغريب في اجتماعات القيادات المتنامية هو يقينها من أنّ جبران باسيل برهن وبالملموس انّه لا يريد له شريكاً في النفوذ والسلطة والمحاصصة، وهو غالباً ما ينقلب على من يتحالف معهم، إلا أنّ ضرورة وجوده لتتوازن المحاصصة تجعل حنظله مقبولاً و»سكر زيادة» ما دام يرتبط بلعبة الشعبوية السائدة بفعل التجاذب في الشوارع الطائفية. ويجب أن يبقى في المعادلة، ويجب أن تبقى له الأفضلية في البيئة المسيحية، في حين أنّ من ينادي بدولة ومؤسساتها ويشغل باله بسبب الأوضاع الكارثية التي تُغرق اللبنانيين، يخسر رصيده الشعبي.
المهم المحافظة على التركيبة بكل ما فيها من فعل وردود فعل حتى تنضج الطبخات الاقليمية والدولية وتتلقح بمواصفات الصفقات الداخلية.
حينها وفقط حينها يتحول مجلس النواب بفعل الشغور في موقع رئاسة الجمهورية إلى هيئة ناخبة منعقدة بشكل متواصل حتى ينجح النواب بانتخاب الرئيس، وغالباً من الدورة الاولى. وليس مهماً العمل لتصويب الأمور باتجاه معالجة الويلات التي يغرق فيها الشعب اللبناني بكل طوائفه جراء الانهيار الاقتصادي والمالي المخيف والمتواصل بفعل خلافات ظاهرها طائفي وباطنها صراع على الحصص والنفوذ، فقط لا غير. اذاً من البديهي أن تتكرر الحركات، وتطغى على حقوق المواطنين الذين تجاوزوا خط الفقر، كما تشير المنظمات الدولية، وعلى الرغم من ذلك يتجيشون ويتخندقون في مشاريع مشبوهة، لتبقى الغلبة لمجموعات تتأرجح بين «حزب الله» و»جنود الله» وما شابه… بما يلبي تطلعات المحور الايراني، الذي يهمه كثيراً نشوء تجمعات طائفية يتولى وكيله التلاعب بها بانتظار تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود في ولائم الوسطاء وديارهم العامرة التي تجمع رؤوساً قدرنا أن تتفق على كل ما هو حرام بحق الشعب اللبناني.