في سياق خيبة الأمل التي يعيشها اللبنانيون المواكبون لعجز المؤسسة الدستورية الأم عن إنهاء الشغور وانتخاب رئيس جديد للبلاد، يسير المشهد السياسي القائم نحو تطبيع تدريجي واضعاً اللبنانيين أمام خياريْن إثنين:
الخيار الأول، يعبّر عنه إمعان في الدعوة لحوار بين كتل نيابية متناقضة، حوار يفتقر بالدرجة الأولى لوسيط متجرّد قادر على إدارته، كما يفتقر للتوازن بين المتحاورين بما يقتضي وجود طرح واضح لكلّ منهم لإطلاق النقاش، ويفتقر أخيراً لاعتراف متبادل بحق أي منهم في اختيار مرشحه دون أن يواجه بالرفض والتخوين. الحوار المطروح إياه تحت عنوان «البحث عن رئيس لا يطعن المقاومة» ليس سوى محاولة لتعيين رئيس للجمهورية يتمّ التصديق عليه لاحقاً في المجلس النيابي بـ «همروجة اقتراع» تُضفي عليها جدران البناء العريق للبرلمان مسحة من ديمقراطية غابت عن لبنان وأصبحت أثراً بعد عين.
الخيار الثاني، وهو ما يتولاه العرّافون وقارؤو الطالع والتقاطعات الإقليمية والدولية وواضعو المواصفات التي تتلاءم مع شروط العواصم الكبرى. يعدُنا هؤلاء برئيس خلال الربيع القادم، والمنطق المتوفر لهذه القراءة يستند إلى سيناريو يدعي المروّجون له القدرة على رصد المصالح الأميركية والإيرانية والأوروبية والخليجية وتوقّع اللحظة التاريخية الحاسمة للتقاطع الحتمي في ما بينها. الرئيس المُنتخب في اللحظة إيّاها لن يكون سوى تعبير مادي عن تعليق مؤقت للصدام الدولي والإقليمي، بما يعني أنّ العواصم المعنيّة قد أخرجت لبنان مرحلياً من دائرة الصراع في ما بينها، أو هي إتفقت على قواعد اشتباك جديدة تركن إليها. أما المسوّغات التي يقدّمها هؤلاء للتقاطع الدولي والإقليمي إياه فهي بما يراعي ويُطمئن الجميع في الخارج حيال مصالحهم وهذا ما سيستمد منه الرئيس المنتخب مهمته ودوره.
إنّ التساؤلات التي تفرض نفسها حيال الخيارَين المتوفرَيْن تنطلق من محاولة تلمّس مصلحة لبنان واللبنانيين حيال نجاح أحدهما. وما نعنيه بالمصلحة اللبنانية ههنا هو الخروج من الأزمة الإقتصادية والمالية وإجراء الإصلاحات الهيكلية وبسط سيادة الدولة وتطبيق الدستور بكلّ مندرجاته. فما هي المجالات المتاحة للرئيس المنتخب وما هي القيود المفروضة عليه لكي يطمئن له حزب الله؟ وماذا يتبقى بعد ذلك ليطمئن له اللبنانيون؟ وإذا كان نموذج الرئيس السابق ميشال عون هو ما يُطمئن حزب الله كما أكدّ أمينه العام مراراً فما الذي تستطيعة نسخة جديدة منه سوى الفشل المحتم؟ والتساؤلات عينها تُساق لدى محاولة سبر التقاطعات الدولية على تنوّعها في حال نجاحها في إنهاء الشغور الرئاسي وتلمّس شروطها، فماذا يستطيع الرئيس القيّم على إدارة شبكة من الإختلافات بين كلّ من إيران والولايات المتّحدة وفرنسا ودول الخليج أكثر من ترسيخ محاصصة سياسية قائمة بين قوى الأمر الواقع القابضة على الدولة وتمديد صلاحيتها وإخضاع ما يمكن أن يقدّم للبنان لمعادلة الفساد وتوزع النفوذ القائمة.
كيف ينظر عامة اللبنانيين إلى الشغور الرئاسي وضرورة ملئه بمن يعمم الإطمئنان على كلّ لبنان ويعيده إلى محيطه العربي والمجتمع الدولي كدولة تستحق الإحترام ؟.
الشغور الرئاسي بالنسبة للبنانيين لم يبدأ لحظة خروج العماد ميشال عون من بعبدا بل كان مرافقاً وملازماً له طيلة فترة تربعه على كرسي الرئاسة، وهو ليس في عدم جلوس رئيس على كرسي الرئاسة بل هو في عدم قدرة من يجلس على الكرسي على القيام بواجباته الوطنية. وهذا لا يقتصر على موقع الرئاسة الأولى بل هو موجود في كلّ الرئاسات والمواقع. الشغور أضحى ظاهرة معمّمة ومرافقة لحياة اللبنانيين، هو شغور وطني يعبّر عن نفسه في خطاب سياسي منحدر وفي غياب الحوكمة وازدواجية المعايير في كّل مفاصل الشأن العام. الشغور ماثل أمام اللبنانيين في تسيّب الحدود ومع الفساد المستشري في قطاع الكهرباء وسواه ومع عجز القضاء عن التحقيق في تفجير مرفأ بيروت واستنسابيته في قضايا أخرى، وفي الإعتداء على قوات اليونيفيل، وفي تداعي الجامعات والخدمات الطبية وسواها. أجل يعيش اللبنانيون شغوراً وطنياً غير مسبوق مع كلّ تنازل عن السيادة الوطنية ومع كلّ استباحة للقانون ومع كلّ زبائنية في الإدارة وتقاعس في القضاء والأمن والإقتصاد.
قد تُفضي جهود الباحثين من زوار العواصم أو سواهم إلى تسميّة ساكن جديد للقصر الرئاسي بالمواصفات المطروحة، ولكن ما يعلمه اللبنانيون أنّ ذلك لن يُنهي ظاهرة الشغور، وما يجب أن يعمله المسترئسون أنّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية يتجاوز حضوره ما يلزم بتعليق صوره على جدران المؤسسات له عنوان واحد: «رئيس سيْد يستمد حضوره من التزام الدستور وتطبيق القانون».
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات