Site icon IMLebanon

رئيس يأتي بحل أو حل يأتي برئيس

 

 

مَرْتا، مَرْتا، إِنَّكِ تَهْتَمِّينَ بِأُمُورٍ كَثِيرَة، وَتَضْطَرِبِين! إِنَّمَا المَطْلُوبُ وَاحِد» (لوقا 10)

منذ أيام استذكرنا لقمان سليم، ذاك الصوت الصارخ والقامة العالية، هذا الإنسان العميق في أدبه وثقافته وبساطته، الذي وقف في وجه الوحش في عقر داره ليعلن، كما قال الشاعر إبن الجنوب حسن العبد الله «انتزعتك من بنادقهم بأن أعلنت وقتي حيث ينطفئون… صوتي حيث ينهدمون… بيتي حيث ينهدمون…».

 

شجاعة لقمان تفوقنا جميعًا وتزيد، فبعضنا ما زال يلوّح في سيفه من بعيد، ويصدر أصواتًا وقرقعة لا يصل منها إلى مسامع الوحش إلّا الصدى، فيبتسم ابتسامته الصفراء معلنًا انتصاره. أما لقمان، فقد رفع يده وصفع الوحش بأن سمّاه باسمه من دون خوف أو تردّد… فيما نحن، عن بُعد، نعلن تضامننا واستنكارنا، فيما الوحش يسخر من عجزنا.

 

عجزنا هو لأننا ما زلنا غارقين في بديهيات الأمور، نزايد واحدنا على الآخر، ونتلهى بلِعب رماها لنا الوحش. من هذه اللِعب، على سبيل المثال لا الحصر، من سيكون رئيس الجمهورية الآتي؟ فيما الأمور تتآكل وجوهر الأمور ما زال منسيًا وبعيدًا من المساءلة، لجهل حينًا ولعجز جبان في معظم الأحيان!

 

أسهل جواب عن أسئلة جيراني ومعارفي عن الوضع هو أن لا حلّ في الأفق بالنسبة للبنان، لكن الناس تحتاج إلى جواب فيه حل حتى يتفاءلوا، ولو مجرّد بصيص أمل في آخر النفق. الأمل بتجاوز الواقع هو الوحيد الذي يدفع البشر إلى انتظار الغد أو السعي للحياة ليوم آخر. لكن الأمل في ما هو ميؤوس منه هو صنو الانتحار، لأنّ من ينتظر الفرج من عمق نفق مسدود، لن يحصد عندها إلّا الخيبة، وبالتالي يتأخّر السعي إلى خيارات أخرى، قد تكون أكثر نجاعة. لكن من حق الناس أن تبحث عن الأمل، ولو كذبًا، حتى تستمر في الحياة. الأمل المنشود في لبنان يتمحور اليوم حول انتخاب رئيس للجمهورية، فيكون الانتخاب مقدّمة لحال انعدام الوزن الخطير لدى الناس، وبالأخص أن يكون هذا الانتخاب مدخلًا لوقف هبّات سعر الصرف الباردة والساخنة، ومن هناك الانطلاق إلى استعادة دورة حياتهم المستقرة، حتى وإن كان على زغل، مع الاقتناع بأنّ هذا الاستقرار، حسب الخبرة البائسة الطويلة، سيكون مجرد استراحة مؤقتة!

 

 

يمكن أيضًا تفهّم موقف الكنيسة المارونية المأزوم بغياب الرئيس الماروني، مع العلم أنّ وجود هذا الرئيس في سدّة الرئاسة في السنوات الست الماضية، على الأقل، كان أسوأ من غيابه، أكان ذلك على المسيحيين خصوصاً، أم على لبنان. فلا داعي للتذكير بكيف حصل انفجار المرفأ وكيف حصل السقوط السريع نحو جهنم، بوجود رئيس للجمهورية، أتى بشبه إجماع مسيحي. لكن الانجرار وراء قبول أي شيء مسيحي في سدّة الرئاسة، يعني بالتأكيد الانصياع للابتزاز الذي تمّت ممارسته، أكان في أيام الوجود السوري، أم في أيام «حزب الله».

 

المشكلة هي في الاعتقاد السائد لدى الناس، وحتى بعض ممارسي السياسة، وأحيانًا دعاة التفاؤل، حتى ولو بالوهم، هو أنّه بمجرد انتخاب رئيس للجمهورية فإنّه يعني بداية الحلول لكل شيء، أي الكهرباء والضمان الصحي وادوية السرطان وسعر صرف الدولار وهجرة الشباب وعودة الاستثمارات وبدء ضخ الغاز من الحقول الصابرة على غبائنا، إضافة إلى المن والسلوى بعد التيه في صحراء اليأس! لكن المنطق يقول انّ وصولنا إلى ما وصلنا إليه كان بوجود رئيس جمهورية وحكومات وحدة وطنية وأخرى ممانعة أو تكنوقراطية، كما استمر السقوط بحكومات فاعلة وأخرى مستقيلة تقوم بتصريف الأعمال، لكن الحال بقيت على حالها، والسقوط ما زال من دون قعر في المدى المنظور.

 

 

هذا لأنّ جوهر الأمور في مكان آخر، فيما نحن نتداول الظواهر البديهية. فسبب التدهور المتسارع في حال الدولة، أو ببساطة فشل الدولة، هو ذاته سبب شغور سدّة الرئاسة، أو بالأحرى شغورها بتفريغ معناها حتى بوجود رئيس منتخب من مجلس النواب. والسبب ذاته ينسحب على فراغ السلطة حتى بوجود حكومات كاملة الصلاحية، تعطّلها التعطيلات المتبادلة أثناء السلم، وحدّث ولا حرج عن أزمة التمثيل النيابي.

 

لا أريد أن أعطي الانطباع بأنني أحصر الانهيار بمفاعيل وجود «حزب الله» من دون شريك، فشركاء الحزب هم حلفاؤه وأتباعه من جهة، لكن الأسوأ هو أنّ شركاء الحزب هم خصومه الذين تغريهم وأغرتهم ألقاب السلطة ومفاتنها وفوائدها على حساب المصلحة العامة، أو الذين يعتبرون «الكل غلطانين»، فساهموا بتجهيل الأسباب وتوزيع الاتهامات في كل اتجاه. لكن الأسوأ هم المعارضون لسلطة «حزب الله»، الذين فشلوا حتى الآن بالاتحاد الرسمي العلني حول خيارات واحدة واستراتيجية واحدة.

 

لن أذهب في كلامي إلى تضييع الجوهر في الحديث الفارغ الذي يلهينا به جماعة الحزب بالحديث عن الكرامة والعزة المعززتين بالموت المموه بالاستشهاد، فهذا كلام لا يُترجم بالدفء في عزّ البرد ولا بنور الكهرباء في عزّ الليل، ولا بثبات سعر الصرف ولا بالدواء والاستشفاء ولا… فبالنسبة اليّ رأس العزة هو عدم إذلال الناس بحاجاتهم البديهية، وليس استخدامهم ليعتز بتضحياتهم زعيم ما أو مرجع ما مختبئ تحت سابع أرض، وكأنّ حياته وعزّته تساوي آلاف حيوات الناس. والعزّة هي في حضور تخرّج الأبناء والبنات بشهادة من الجامعة لا بشهادة في ساحة الحرب. لذلك، فالطريق لا يبدأ بالتوافق ولا حتى انتخاب رئيس ليبحث عن حل، بل برئيس يأتي به حل شامل يعالج جوهر الأمور التي تسببت بالسقوط.

 

 

الأمر بسيط ومستحيل في الوقت ذاته؟ فالحل الأول يكون بدولة فيها سلاح شرعي واحد يأتمر بسلطة واحدة. وهنا، لا يهمّ من يقبض على ناصية هذا الحق، ولكن من يملكه لا يشاركه أحد فيه، حدوده القانون وقواعد حقوق الإنسان، كما أن تخضع السلطة للمساءلة في مراجع مستقلة عن سلطتها، أي مجلس نواب وقضاء. بعد ذلك على السلطة أن تذهب إلى الترميم المنهجي في وسائل الرزق والإنتاج واستخلاصه من الريعية التي كانت ولا تزال أهم أداة لأمراء الطوائف، في تمزيق السلطة والدولة معًا. على السلطة أن تضبط حدودها لوحدها لتتمكن من فرض الأمن وفرض الضرائب المناسبة من خلال الحدود. وعلى هذه السلطة أن تسعى إلى إصلاح علاقاتها المفيدة مع المحيط القريب والبعيد، من ضمن منظومة مصلحتها الاقتصادية أولاً والسياسية والأمنية على قدر ارتباط هذه الأمور بالأمان الاقتصادي، في اختصار أن ترهن كل الأمور بالسعي للتفاعل مع الهواجس الأكثر أهمية للمواطنين من العزة والاستشهاد، أي أمانهم الاقتصادي المرتبط بالبديهيات في واجبات السلطة.

 

من هنا، لا أرى جدوى من انتخاب رئيس يعود، وإن صفت نيته، ليكون أسيرًا للواقع الحالي، حيث قرار السلطة موجود في مكان آخر، وينسحب الأمر أيضًا على مجلس النواب والحكومة والقضاء والقوى الأمنية.

فعبثًا إذًا التلهّي بالبحث عن رئيس، فيما نحن نحتاج إلى حل جذري لوضع السلطة، يأتي من خلاله رئيس.