ممّا لا شك فيه انّ الحديث عن إمكان انتخاب رئيس الجمهورية بآلية وأدوات طبخة لبنانية فحسب بات متعذراً. فالحديث عن استقلالية الكتل النيابية الكبيرة لإنجاز الاستحقاق مجرد أوهام لا تقنع أحداً. ولذلك تعددت السيناريوهات التي تحاكي وساطة خارجية. ولمّا استبعدت الآلية المعتمدة لدى «السفراء الخمسة» اتجهت الانظار الى واحدة من اثنتين. فهل يتقدم الحوار السعودي ـ الايراني ام الاميركي ـ الايراني؟ ولمن ستكون الأولوية؟
في الكواليس الديبلوماسية حديث جدي عن طريقة دفع اللبنانيين الى إجراء مقاربة أكثر واقعية لملف الاستحقاق الرئاسي، فالمخاوف الدولية تتجاوز بأشواط هواجس بعض اللبنانيين وحذرهم من المردود السلبي للتأخير في وضع حد لخلو سدة الرئاسة. ذلك انّ بعض اللبنانيين غارق في أوهامه يبحث عمّن يدعم وجهة نظره ويؤيده في مسعاه للوصول الى سدة الرئاسة أو السعي الى تزكية هذا او ذاك من لائحة المرشحين الفضفاضة لرئاسة الجمهورية، هذا إن شملت أسماء المرشحين المخفيين الساعين الى المشاركة في السباق الى القصر الشاغر منذ الأول من تشرين الثاني الماضي من دون القدرة على التكهن بأي موعد لإتمام الاستحقاق. ومهما طال انتظاره فإنّه لا قدرة لأحد على إزالة العوائق التي تحول دون التئام المجلس النيابي كهيئة انتخابية الى حين انتخاب الرئيس العتيد وقبل القيام بأي عمل آخر.
على هذه الخلفيات، يتوجّس الديبلوماسيون ومعهم عدد غير قليل من المراقبين اللبنانيين من الترددات السلبية المحتملة نتيجة النزاع القائم حول بعض الخطوات التي تتجنّب البحث في ضرورة ملء الشغور الرئاسي. فهي في شكلها ومضمونها وتوقيتها توحي بالسعي الى تنظيم الشغور في المرحلة المقبلة وكأنّ الامر مؤجل الى حين لا يمكن لأحد أن يضع حداً له. وما يزيد في الطين بلة انّ في كثير مما يجري ما يزيد المخاوف مما هو آت وسط تضارب المشاريع والخطوات التي جنّدت لها كل الطاقات الادارية والسياسية وحتى القضائية. ولو قدّر للبعض منهم استخدام القوى العسكرية والامنية لما تأخّر عن القيام بمثل هذه المغامرة الخطيرة.
ولا يتردد العارفون في تفسيرهم هذه التوقعات من الاشارة الى ان ما يعكس هذه المخاوف مردّه الى ما تضمّنته مجموعة من التقارير الامنية التي تتحدث عن احتمال أن تطلّ الفتنة من مكان ما قد لا يحتسبه احد، فالازمة الاقتصادية والاجتماعية وفقدان مقومات العيش في بعض المناطق تؤهّل الأرضية الصالحة التي تؤدي الى إنتاج مثل هذه الممارسات الشاذة في ظل وجود من لم يتورّع عن استغلال اي حدث مهما كان شكله وحجمه لِصرف النظر، إمّا عن فعلته الجرمية مهما كانت محض شخصية، او لتحقيق مآرب لأطراف اخرى خارجية كانت أم داخلية لا تخدم مجتمعه ومحيطه أيّاً كانت النتائج التي يمكن أن تترتب عليها.
وانطلاقاً من هذه الهواجس توقّف المراقبون أمام مجموعة التحركات الاقليمية والدولية التي لم تكتمل فصولها بعد، بحثاً عن موقع لما يسمّى ملف لبنان المطروح على طاولات المجتمع الدولي الذي بادر في أكثر من مناسبة الى مناقشة ما يمكن القيام به في الفترة الاخيرة. وإن كانت الرهانات التي عقدت على «اللقاء الخماسي» قد أدت الى ضرورة التريّث، فالخطوات المقررة تمشي على هدي «الديبلوماسية السلحفاتية» الطويلة المدى التي لا يمكن تقدير ما يمكن أن تقود إليه في ظل المعلومات المضللة التي ترددت في بعض اوساط المرشحين عن خلافات عميقة بين هذا المرشح او ذاك، مستبعدين ما سرّبته مصادر هذه المجموعة بأنها لم تتطرق الى الاسماء وانّ همّها هو وضع رسم تشبيهي للمرحلة المقبلة و»مواصفات» الرئيس المطلوب لأنّ المهمة النهائية للتوصل الى مرحلة الإختيار تقع على عاتق اللبنانيين.
وعليه، فقد انصرفت الانظار الى الحركة الديبلوماسية التي تشهدها دمشق التي قصدها عدد من الديبلوماسيين العرب والخليجيين على خلفيات عدة، وفي مقدمها الطابع الانساني لا السياسي للتضامن مع الشعب السوري في المحنة الناجمة عن الزلزال الذي ضرب مناطق سكنية واسعة، وتسبّب بمزيد من الضحايا والخراب أكثر من الدمار الذي تسببت به الحرب الدائرة فيها منذ 12 عاما. وكل ذلك بهدف الايحاء بأنّ اي انفراجات سياسية في العلاقات بين هذه العواصم وسوريا لا يتم من دون معرفة او بالتفاهم مع الجانب الايراني، الأمر الذي يقود حتماً إلى ما يمكن ان يؤدي اليه الحوار السعودي ـ الايراني الذي ما زال مجمّداً عند ما حققه في اليمن من انفراجات محدودة معلقة على خطوات يتوقّع ان تقوم بها الأطراف اليمنية وما زالت مترددة أو عاجزة عن القيام بها.
وعليه، تعترف المراجع الديبلوماسية انّ ما يعاني منه لبنان من مظاهر العجز والفشل في اتخاذ اي قرار يستدرج العالمين العربي والغربي لدعمه شبيه بالعجز اليمني الذي تجلّى بتجميد كثير من الخطوات التي تتعدى تجديد العمل باتفاقيات وقف النار بين المتقاتلين وتبادل الاسرى والموقوفين، من دون أن تؤدي وساطة الأمم المتحدة والموفدين العرب والدوليين الى إحياء أيّ مما قالت به اتفاقيات عدة أُبرمت في أكثر من عاصمة، لا سيما منها «اتفاق الرياض» الذي رسم خريطة الطريق الى المصالحة الداخلية بعد اعادة توزيع المواقع والمصالح بما يضمن الحلحلة التي هدفت إليها هذه التحركات ولم ير ايّ منها النور. فقد كان مؤملاً ان تؤدي خطوة استقالة الرئيس اليمني عبد الهادي منصور الذي شكل ببقائه في رئاسة جزء من اليمن تحدياً للحوثيين وعشائر يمنية اخرى، ولم يؤد تشكيل مجلس القيادة الجديد الغاية منه حتى اليوم.
عند هذه الملاحظات، لا يبني المراقبون أي رهان او توجه ايجابي يمكن ان يؤدي اليه الحوار الاميركي ـ الايراني المجمّد. فمعظم الذين قادوا المبادرات في اتجاه طهران تراجعوا دولاً وموفدين واحداً بعد آخر. فبعد انقطاع الخط الذي فتح أخيرا بين الاتحاد الأوروبي وباريس مع طهران على أنقاض المفاوضات مع مجموعة الـ (5+1)، بات الرهان الأخير معقوداً على الوساطة القطرية التي ما زالت في بدايتها. وهي تنتظر ما يمكن ان تنتهي اليه مبادرة «السفراء الخمسة» التي كلفتها المهمة. وهو أمر ليس سهلاً تحديد مآله في انتظار انتهاء السفيرة الفرنسية آن غريو من جولتها لتبني مع زملائها الاربعة الخطوات المقبلة.
وختاماً، تبقى الاشارة ضرورية الى انّ ما بين العجز الاقليمي والدولي عن توفير مبادرة تقرّب وجهات النظر بين اللبنانيين والعجز الداخلي عن تجاوز ما يعوق التفاهم بين المعنيين بالطبخة الرئاسية، ما على اللبنانيين سوى رصد مزيد من المآسي التي تعزز الخلافات فيما بينهم من دون أي أفق محدد.