لم يعد سراً أنّ القرار السياسي الذي كان يؤثّر في الوضع اللبناني عام 2008، هيّأ الظروف ودفَع الأوضاع الى ذروة المواجهة السياسية من خلال قرارات مجلس الوزراء في 5 أيار، فاتحاً الأبواب أمام الحركة العسكرية التي حصلت في السابع من الشهر نفسه.
في بداية شهر أيار، زار لبنان فجأة المسؤولُ القطري يوسف بن جبر، وهو كان يعمل مساعداً لرئيس الوزراء ووزير الخارجية حمد بن جاسم، والتقى على عجل قائد الجيش يومَها ميشال سليمان وأبلغ إليه أنّ انتخابه رئيساً للجمهورية سيحصل قبل نهاية الشهر، إلّا أنّ أحداثاً وتطوّرات ستحصل والمطلوب منه البقاء جانباً. طبعاً كان المقصود عدم تدخل الجيش في أيّ مشكلات أمنية ستحصل.
ومع بدء الاضطرابات الامنية في ذلك اليوم الشهير، كانت شخصية لبنانية تزور واشنطن حيث التقت السفير جيفري فيلتمان الذي تربطها به علاقة صداقة وثيقة. يومَها كان فيلتمان يعمل في وزارة الخارجية بعدما غادر لبنان.
وفي بداية اللقاء بدت الشخصية اللبنانية متوترة وقلقة إزاء الاحداث المتسارعة في بيروت، لكنّ فيلتمان كان على عكس ضيفه اللبناني هادئ الأعصاب وواثقاً من أنّ لهذه الاضطرابات الامنية سقفاً جغرافياً وزمنياً، وأنها تشكل الممرّ الالزامي لأخذ الامور في اتجاه تسوية سياسية وانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
ومناسبةُ هذا الكلام اليوم، هو اعتقادُ البعض بأنّ السيناريو نفسُه قابل لأن يتكرّر، ولكن وفق نسخة منقّحة تتلاءم مع الظروف الحالية كمدخل لإجبار الأفرقاء السياسيين اللبنانيين تحت ضغط الوضع الامني الذهابَ الى تسوية سياسية، تُتوَّج بانتخاب رئيس جديد.
وهذا السيناريو كان قد راج بقوّة في الكواليس الديبلوماسية خلال الاسابيع القليلة التي سبقت وتلت رحيل سليمان عن قصر بعبدا. كان الكلام يدور يومَها عن تحضير المَخرج لإنجاز الاستحقاق الرئاسي بالحسنى او بالقوّة، قبل انتهاء الولاية الممددة للمجلس النيابي في 20 تشرين الثاني الجاري(اليوم)، وأنّ كلّ وسائل الضغط ستُستعمل من أجل ذلك. لكنّ ثمّة زلزالاً كبيراً ضرب المنطقة ورتّب تعديلات أساسية في الواقع اللبناني.
فعدا عن أنّ الملف اللبناني أصبح في آخر لائحة اهتمامات العواصم الغربية في الشرق الاوسط، بدا أنّ المطلوب من الساحة اللبنانية في ظلّ إعصار «داعش»، مسألتان أساسيتان:
أولاً، الحفاظ على الحدّ الأدنى من الاستقرار السياسي من خلال حماية الحكومة اللبنانية من التفسّخ ومنعها من الانفجار.
ثانياً، تأمين الحدّ الأدنى من الاستقرار الامني من خلال دعم الجيش وتأمين كلّ المستلزمات المطلوبة لإنجاح دوره وإمساكه بالارض.
ووفق ذلك، تراجعت، لا بل اختفت، فكرةُ استعمال الأزمة الامنية وسيلة لتطويع الأفرقاء اللبنانيين ودفعهم إلى التسوية السياسية المطلوبة. فالمواجهة العسكرية المطلوبة يجب أن يكون وقعُها كبيراً لتؤتي ثمارها، تماماً كما حصل في 7 أيار، حين حصل اجتياحٌ لمناطق نفوذ تيار «المستقبل» كلها، وإستُتبِع ذلك بضربة عسكرية قوية وموجعة لساحة النائب وليد جنبلاط.
أيْ التسليم بأحادية النفوذ العسكري على الساحة لمصلحة «حزب الله»، في مقابل الإقرار لاحقاً في الدوحة بنفوذ «المستقبل» السياسي من خلال الحكومة، مرفقاً ذلك بضوابط سياسية عرفت بـ»الثلث الحكومي المعطل». وهذا ما سمح لاحقاً للنفوذ السوري باللعب على التناقضات وممارسة دور ملتبس في الانتخابات النيابية في دائرتَي زحلة والبقاع الغربي.
أما اليوم، فإنّ فتح باب المواجهة الواسعة قد لا يكون قابلاً للسيطرة لاحقاً. ففي عام 2008 كان هناك طرف واحد قادرٌ على التحكم بالارض وهو «حزب الله». أما اليوم فقد جعل النزاع الكبير في المنطقة، الواقع الميداني في لبنان مختلفاً وغيرَ قابل للسيطرة عليه لاحقاً، في حال فُتِحَت أبواب المواجهة.
ماذا يعني كلّ ذلك؟ وهل إنّ الاستحقاق الرئاسي أصبح في مهب الريح؟
بعيداً من «حفلات» تسجيل النقاط من خلال بعض المواقف السياسية والاعلامية التي تفتقد لأيّ مضمون جدّي، من الواضح أنّ المفتاح الوحيد لقفل الاستحقاق موجودٌ في تفاهم سعودي – ايراني، وأبرز دليل على ذلك أنّ جلسة التمديد الثاني لمجلس النواب التي شهدت حضوراً نيابياً فاق نصابَ الثلثين، لم تشهد أيّ جهد حقيقي لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، هذا إذا افترضنا أنّ حسابات انتخابات الرئيس داخلية.
خلال الاشهر الماضية، حاولت باريس سبر أغوار طهران في ملف الرئاسة اللبنانية، لكنها حصلت على جوابٍ سلبي بعدما أحالها المسؤولون الايرانيون إلى «حزب الله».
وفي اللقاءات المكثّفة التي يعقدها ديبلوماسيون أميركيون مع نظرائهم الفرنسيين في قسم الشرق الاوسط في السفارة الاميركية في باريس، يعتقد هؤلاء أنّ إنجاز خرق واضح في مسار المفاوضات حول الملف النووي مع إيران سيؤمّن إنجازَ بعض المسائل العالقة في المنطقة بما فيها لبنان.
وعلى عكس بعض الاجواء الاعلامية، تعتقد كلٌّ من واشنطن وباريس بأنّ الظروف باتت اكثرَ ملاءمة، ما قد يسمح بإعلان لائحة نيات بين إيران والدول الست حول الملف النووي، وهو ما سيسمح لاحقاً باستثماره على المستويَين السوري واللبناني. وفي لبنان، تواصلٌ غير مباشر بين تيار «المستقبل» و»حزب الله» عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي، تواصلُ كسر حال القطيعة ولكنّه لا يزال بلا مضمون فعلي.
وفي ساحة النجمة، فتح برّي ملف قانون الانتخابات، ما يفتح الطريق داخلياً لتحضير الأجواء في حال حصل الخرق الاقليمي. فالعماد ميشال عون الذي يُمسك بمفتاح «القِفل» الداخلي، سيطلب تسوية تحمل «تعويضاً» سياسياً له، وفي طليعة هذه التعويضات قانون جديد للانتخابات يرتكز على النسبية، اذا تعذّر إقرار مشروع «اللقاء الأرثوذكسي»، إضافة طبعاً إلى بنود أخرى تطاول الحجم الحكومي لاحقاً، ونوعية الحقائب ومسائل مشابهة في السياسة والاقتصاد.
من هنا أهمية «مؤشر» قانون الانتخابات، عندما تنجح الاختراقات الديبلوماسية إقليمياً، وإلّا فلا سبيل آخر ممكناً للأزمة اللبنانية الداخلية.