IMLebanon

القراءات السياسية المعكوسة

 

 

أتت القراءات والتحليلات السياسية والعددية ما بعد جلسة الانتخابات الرئاسية اللبنانية رقم ١٢ أشدّ وقعاً وتأثيراً وجدلاً من التحضيرات التي سبقت المعركة، كما وأحداث اليوم الانتخابي بذاته. وبالرغم من أنّ المعركة التي جرت تحت قبّة البرلمان اللبناني بتاريخ ١٤ حزيران ٢٠٢٣، لم تكتمل ديمقراطياً، فقد كان بالمستطاع إنجاحها كلّياً بانتخاب رئيس للجمهورية، لو أنّ فريق المُمانعة المُعاكس للديمقراطية قد سلّم أمر البلاد لعامل التنافس بالأصوات، وليس لعامل الحوارات الملغومة والمصحوبة بالألغام والتفجيرات والتهديدات والترغيب والوعود السلطوية والإفسادية. ففي كل مرّة ينجح فيها معارضو هذا المحور بتحقيق توازن جدّي وتماسك حقيقي بوجهه، يُسرع لطرح فكرة الحوارات العقيمة التي يهدف من خلالها الى تشتيت معارضيه الذين يلتقون على رفضه، وبالوقت ذاته يتمايزون ندّياً وبشكلٍ طبيعي في أمورٍ اخرى.

 

جاءت القراءات المُمانعجيّة المُجهّزة مُسبقاً معاكسة تماماً للمعاني الحقيقية ولمجريات المعركة ولتصويت التكتلات المتعدّدة، وقد حاول مطبخ الفبركات المُمانع مُعاكسةَ الحقائق بشرح نظرية عددية (numeric) جديدة تقلب جميع المفاهيم التي التقت عليها الانسانية خلال تطورها العلمي للألاف السنين، بالقول إنّ الرقم الأصغر هو المُنتصر على الرقم الأعلى، وبنت على هذه الخُزعبلات حفلة ابتهاجاتٍ اعلامية كاذبة بهدف بثّ أجواء فشل المعارضة. أمّا الحكمة الوحيدة التي من الممكن استخلاصها من نظرية المحور المعكوسة فهي أنّه بالفعل استطاع تثبيت منهجيته المرتكزة على التمسّك بفيتو الاقلية ضدّ الاكثرية، وقد مكّنته من شلّ الدولة اللبنانية وتوجيه مسارات السلطات الرسمية اللبنانية الى نسبةٍ كبيرة على مدى السنوات العشرين الفائتة.

 

إنّ رقم ٥١ الذي ناله محور المُمانعة بوجه رقم ٧٧ المواجه له قد أكّد واقع الدويلة بوجه الدولة، وقراءات المحور المعكوسة لنتائج التصويت بهذا الشكل المغلوط تندرج من ضمن برنامج ورؤية معكوسة لمفاهيم بناء الدول. ففي حين تقوم القوى الملتقية والمتقاطعة، بالندّية وبالاحترام المتبادل، بالتفاهم على حلولٍ واقعية ومنطقية وانفتاحية واصلاحية، وتعمل بالرغم من تنوّعها على قراءة متأنّية ومتجرّدة لنتائج اعمالها وتفاهماتها، وتسعى للمحافظة على مسارٍ واحد لها متعاضدةً ومتضامنة، يُقدم فريق المُمانعة المُنتمي لمشروعٍ توسّعي اقليمي وايديولوجي فئوي، بأدلجة جماعاته المنضوية في أحزابه، والجماعات التابعة له تبعاً لمصالحها، بالتمسّك بتقاطعه مع الحسابات الايرانية الاقليمية، ويتمادى بلعبته المعهودة بالتسويق لقراءاتٍ معكوسة حول الحقائق المرّة التي يمرّ بها لبنان، محاولاً عكْسَ الزمن الانساني ومنعَ نهضة البلاد وابقائها رهينةً لاعماله الارهابية والاجرامية والتهريبية والابتزازية.

 

ليست المعركة الديمقراطية وأرقامها هي همّ محور المُمانعة، بل جلّ ما يُريده جرّ الداخل والخارج إلى حواراتٍ إفسادية وتحاصصية وتجزيئية، حيث يسود فيها مفهوم الدويلة ويسقط فيها منطق الدولة. الصراع بين الانسان القديم (المُتخلّف) والانسان الجديد (المتطور) هو أمّ المعارك، فالقديم لا يرمي سلاحه بسهولةٍ أبداً، بل يُتقن الخداع بإمتياز، وهو البارع بالتضليل والترغيب، وهو المُحارب الشديد للبقاء على شرّه، ونشره، لأنّ غير ذلك لا حياة له.

 

بالنهاية، هناك من يمتهن القراءات السياسية المعكوسة لاجل فرض المسارات المعكوسة، وهدفه من ذلك القضاء على لبنان الوطن. وهناك من أبقى نفسه حتى الآن اسيراً لقراءاتٍ منقوصة وسطحية، فبات سجين العيش تحت نير حكمٍ تخلّفي، مُساهماً من غير ما يبغي بتوريث الاجيال القادمة خوض المعركة الوجودية بمواجهة التخلّف، وهناك من يقرأ صحّ، ويُحدّد الوجهة صحّ، ويعكس القراءات المعكوسة، لتكون صحّ، وهو الواضح بالسعي لتحقيق التوازن مع محور السياسات المعكوسة، من اجل البدء بمشروع بناء دولة المؤسسات الحقيقية. والمسار طويل ولكن ثابت.