هدفان أراد الرئيس ميشال عون انتزاعهما قبل خروجه من القصر الجمهوري الترسيم والحكومة على رغم انّ الهدف الأول هو نتيجة تقاطع مصالح دولية وإقليمية صدف حصوله في هذا التوقيت ولا دور فعلي لعون في تحقيقه.
لم يحصل الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل سوى نتيجة اندفاعة أميركية كبيرة واستثنائية، تقاطعت مع مصلحة أوروبية وأميركية وإسرائيلية، تُرجمت بمنح «حزب الله» الضوء الأخضر للسلطة بتحقيقه، وكان سيحصل في هذا التوقيت في ظلّ مطلق أي سلطة قائمة، ولا علاقة للعهد السابق بمسار الترسيم باستثناء انّ توقيعه تمّ إبّان ولايته، وبالتالي استفادته معنوية فقط لا غير، وهو بدأ توظيفه لحسابات رئاسية مستقبلية انطلاقاً من مقولة انّ من «أنجز» الترسيم البحري بإمكانه إنجاز الترسيم البري، وكأنّ دوائر القرار تجهل كيف سلك هذا الترسيم طريقه من واشنطن مروراً بباريس وطهران وصولاً إلى تل أبيب.
والهدف الثاني الحكومي كان بدأ التمهيد له منذ مطلع هذا العام، مع فتحه الباب على مروحة خيارات تحت عنوان انّ رئيس الجمهورية لا يسلِّم صلاحياته لحكومة تصريف أعمال، وبعد الانتخابات النيابية ومع اقتراب انتهاء الولاية الرئاسية تولّى كل من الرئيس عون والنائب جبران باسيل التهويل بعظائم الأمور في حال لم تتشكّل حكومة بشروطهما.
ومعلوم انّ كل حسابات العهد السابق في أشهره الأخيرة كانت حكومية، والاستحقاق الرئاسي كان خارج حساباته بسبب إدراكه انّ انتقال الرئاسة الأولى إلى باسيل في هذا الظرف مستحيلة، فأراد شراء الوقت الرئاسي عن طريق حكومة يتحكّم بمفاصلها ويواصل عبرها دوره السلطوي الذي كان يمارسه من باب رئاسة الجمهورية، ولكن حساباته الحكومية اصطدمت بجدار مثلّث:
جدار مطالب باسيل المرتفعة التي يستحيل على اي رئيس مكلّف الموافقة عليها مع رئيس للجمهورية تنتهي ولايته في غضون أيام ويلقى معارضة شديدة سنّياً وخليجياً واستطراداً وطنياً وسياسياً، والمسؤولية الأولى بتعذُّر التأليف تقع على باسيل ولائحة شروطه غير الموضوعية من قبيل انّه ممنوع على الرئيس المكلّف مناقشته بالأسماء التي يريد توزيرها ويرفض التعهُّد بمنح الحكومة الثقة.
جدار الرئيس المكلّف الذي لا يحبِّذ تكرار تجربة حكومة الرئيس تمام سلام بعد انتهاء عهد الرئيس ميشال سليمان، إنما يفضِّل الاستمرار على رأس حكومته المتجانسة او تطعيمها بما لا يُفسِد تجانسها، وبالتالي كان على استعداد للتجاوب مع مطلب تأليف حكومة بشرط ان يكون الهدف التفعيل وليس التعطيل، وما لم يأخذه باسيل في الاعتبار والحسبان انّ ميقاتي في غير وارد الانتحار وان يقبع في عزلة لمدى حياته في حال أهداه الحكومة التي كان يريدها.
جدار الرئيس نبيه بري، وهو الجدار الأسمك الذي رفض منذ اللحظة الأولى منح عون وباسيل «جائزة» حكومية، ولولا الغطاء الذي وفّره للرئيس المكلّف لما تمكّن الأخير من الصمود أمام الضغط العوني، وكان كشف الرئيس عون بأنّ الرئيس ميقاتي وافق معه على تشكيل حكومة ثلاثينية، ولكنه عاد وتراجع بعد ان التقى الرئيس بري ونصحه بالعدول عنها.
وإذا كان الرئيس بري قد فشل في منع انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية، إلّا إنّه قد نجح في عدم منحه حكومة، وإن دلّ موقف بري على شيء، فعلى الخلاف المستحكم مع «حزب الله» ولكن تحت سقف تفاهمهما الاستراتيجي المتصِّل بما يسمّى بالمقاومة، والرهان على خلافهما غير واقعي، إنما يجب التمييز، تبعاً للتجربة بدءاً من رفضه انتخاب عون، وصولاً إلى رفض منحه حكومة، بين تفاهمهما الاستراتيجي، وبين خلافهما السلطوي، وليس تفصيلاً ان يبقى معارضاً ومعترضاً على ترشيح السيد حسن نصرالله للعماد عون، كما معارضاً ومعترضاً على تأليف حكومة تحظى بدعم الحزب.
وهذا الخلاف السلطوي بين «حزب الله» و»أمل» لا يعني القدرة، حتى اللحظة، على مدّ المعارضة الخطوط الرئاسية مع الرئيس بري، لأنّه متفِّق مع السيد نصرالله على ترشيح النائب السابق سليمان فرنجيه، الأمر غير الوارد بالنسبة للمعارضة، ليس كفيتو ضدّ اسم فرنجيه، إنما ضدّ أي مرشّح من 8 آذار، لأنّ أي مرشح من هذا الفريق، بالنسبة إلى المعارضة، يعني استمرار لبنان في مستنقع الانهيار والعزلة والفشل وعدم الاستقرار.
وفي حال أراد الرئيس بري تسجيل النقاط على تحالف «حزب الله» و»التيار الوطني الحر»، فما عليه سوى ان يقترب من المعارضة، خصوصاً انّه يدرك أنّ أي فريق غير قادر على إيصال مرشحه، ويعلم أيضاً انّ واشنطن وباريس والرياض في غير وارد مساعدة لبنان مالياً في حال انتخاب رئيس من 8 آذار، كما انّ المعارضة غير المتفقة بعد إيجاباً على مرشّح واحد تتقاطع سلباً على رفض مرشّح من 8 آذار.
وفي مطلق الحالات، اصطدم النائب باسيل بثلاث لاءات من فريقه السياسي:
لا لحكومة تُألّف نزولاً عند رغبته واستجابة لمطلبه وتلبية لمصلحته وخضوعاً لشروطه.
لا لفوضى أو بلبلة دستورية يدفع البلد باتجاهها كما لوّح وهدّد مراراً وتكراراً.
لا لتبنّي ترشيحه الرئاسي الذي يصطدم بحاجز مع القوى السياسية وحاجز مع الرأي العام وحاجز مع عواصم القرار المعنية بلبنان.
وقد مُني باسيل بهذا المعنى بانتكاسة مثلثة، فلم يُمنح حكومة يشتري الوقت الرئاسي من خلالها، ولم ينجح في جرّ البلاد إلى انقسام دستوري، ولم يفلح في فرض ترشيحه الرئاسي، ولكنه ردّ على إقفال الأبواب الثلاثة في وجهه عن طريق رفض مرشّح الرئيس بري والسيد نصرالله الرئاسي، أي النائب السابق فرنجيه، وعدم تبنّي باسيل لفرنجيه يعني سقوط ترشيحه، فضلاً عن انّ «حزب الله» ليس في وارد الذهاب إلى خيار رئاسي من دون التفاهم مع باسيل.
وما تقدّم يعني انّ المعارضة غير قادرة على توحيد صفوفها حول معوض لإطلاق دينامية رئاسية، ويعني انّ الموالاة عاجزة عن توحيد صفوفها حول باسيل وفرنجيه، ويعني انّه ما لم يتمّ البحث عن المخرج الذي يُطمئن المعارضة بالمواصفات التي وضعتها ولا يستفِّز الموالاة، فإنّ الشغور الرئاسي سيطول، ولكن مع ضرورة الأخذ في الاعتبار ثلاثة معطيات أساسية:
المعطى الأول، انّ الثلاثي واشنطن وباريس والرياض، مصرّ على انتخابات رئاسية، وكان ينتظر انتهاء ولاية الرئيس عون ليرفع من منسوب ضغطه في هذا الاتجاه. والرياض المكلّفة من قِبل واشنطن وباريس لن تقبل بأقل من رئيس يلتزم باتفاق الطائف فعلاً لا قولاً، وإلّا ستواصل نأيها الفعلي عن لبنان الذي لا يمكن ان يستعيد توازنه المالي سوى من خلال الصندوق الخليجي والسعودي تحديداً.
المعطى الثاني، انّ الشغور الرئاسي على وقع الأزمة المالية مع استنفار دولي وفوز نتنياهو في إسرائيل ومع ترجيح فوز الجمهوريين في أميركا، يُخيف «حزب الله» من احتمالات دفع الوضع باتجاه مؤتمر دولي يعيد هندسة الواقع السياسي اللبناني.
المعطى الثالث، انّ ظروف الانتخابات الرئاسية هذه المرة تختلف عن سابقاتها بفعل انتفاضة شعبية وانتخابات نيابية في غير مصلحة الموالاة وتجربة، ليس بوارد أي من القوى تكرارها. وعليه، فإما ان يأخذ «حزب الله» بهذه المعطيات واضعاً الماء في نبيذه ومسهلّاً انتخاب رئيس جديد للجمهورية يعكس الميزان النيابي والتوجُّه الشعبي والرغبة الدولية ويعيد التوازن إلى المعادلة اللبنانية من بابها الدستوري. وإما، فإن الشغور الرئاسي سيطول كثيراً، ويصبح الوضع معه مفتوحاً على شتى الاحتمالات.