يتصف السلوك السياسي للقوى المسيحية بالكثير من الغرابة. فهذه القوى تمضي في نزاعاتها وتشرذمها إلى أقصى الحدود، لكنها لا تتورع دائماً عن الشكوى من تعرُّض المواقع المسيحية في الدولة للاستضعاف أو للاستباحة، من رئاسة الجمهورية إلى المراكز الوزارية والنيابية والإدارية.
بات واضحاً أنّ الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية سيطول حتى إشعار آخر، أي حتى نضوج التوافقات الداخلية والخارجية التي تصنع الرئيس عادة في لبنان. والأرجح أنّ التوافق المطلوب هذه المرة لن يقتصر على شخص الرئيس، بل سيشمل سلّة توافقات داخل السلطة.
وتبدي المرجعيات السياسية والدينية المسيحية مخاوفها من ضياع موقع الرئاسة، نتيجة هذا الفراغ الطويل الأمد، ومعه فقدان الشراكة المسيحية في السلطة.
وقد مرّ المسيحيون بتجربة مماثلة في العام 2014، مع انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، إذ بقي المقعد شاغراً قرابة عامين ونصف العام حتى نضجت الظروف لانتخاب الرئيس ميشال عون، بتوافق داخلي وخارجي. لكن هذا الانتخاب أعقب الاتفاق الشهير بين عون والدكتور سمير جعجع. وفي معزل عمّا إذا كان هذا الاتفاق قد صبّ في مصلحة الشراكة المسيحية في السلطة أم لا، فإنّه كان أساسياً لإنهاء المراوحة في ملف الرئاسة.
اليوم، ندم جعجع على هذا الخيار. وهو يبرّر اعتماده آنذاك بالقول إنّه كان مجبراً على الاختيار بين مرشح 8 آذار «الأصلي» سليمان فرنجية ومرشحها «التقليد» ميشال عون، فاعتمد الثاني لعلّ منسوب العواقب يكون أدنى. لكن البعض يتحدث أيضاً عن حسابات أخرى كانت في ذهن جعجع، وقد سقطت كلها بمجرد وصول عون إلى بعبدا، حليفاً لـ»حزب الله» أولاً وآخراً.
وفي معزل عن الجدل في هذه المسألة، يمكن الاستنتاج أنّ التوافق بين أكبر قوتين سياسيتين مسيحيتين كان أساسياً لتسهيل ملء الفراغ في بعبدا، ولو أنّ كثيرين يعتقدون أنّ من الأفضل لو كان هذا الاتفاق شاملاً مختلف القوى المسيحية. لكن هذا الأمر شبه مستحيل بسبب حدّة التنافر والتنافس بين «ديوك الموارنة».
اليوم، تتكرّر تجربة الفراغ في موقع الرئاسة، وهي مرشحة للتكرار دائماً، إذ بات انتهاك المواعيد الدستورية وتطيير انتخاب الرئيس وخلق الفراغ في الرئاسة مسألة معتادة، في غياب النص الدستوري الذي يسمح للرئيس بالبقاء في موقعه، من باب تصريف الأعمال كما هو الأمر بالنسبة إلى رئيس الحكومة.
والأخطر أنّ فترة الفراغ باتت أمراً يجري التخطيط له، لإجراء المساومات الداخلية والخارجية. وفي النهاية، ما يحسم الخيار هو اللاعب الأقوى على الساحة. ولذلك، يتبارى المرشحون الموارنة في الحصول على رضى الجهات الخارجية النافذة، كما الأقوياء في الداخل، وفي مقدّمهم «حزب الله» والتحالف الذي يقوده الرئيس نبيه بري.
وتبدو القوى الشيعية وحدها ممسكة بزمام أمورها تماماً داخل السلطة، ومن دون أي تأثير آخر. وأما المواقع المسيحية والسنّية فيتمّ حسمهما بالمساومات. ولا يعود ذلك فقط إلى امتلاك القوتين الشيعيتين كل عناصر القوة داخل السلطة وخارجها، بل أيضاً إلى كونهما قادرتين دائماً على اعتماد خيار موحّد. والأرجح أنّ هذا الأمر هو أبرز نقاط القوة لدى الثنائي، وليس سلاح «حزب الله» أو موقع رئاسة المجلس.
في القرارات كلها، الصغيرة والكبيرة، من إقرار قانون الانتخاب إلى الانتخابات النيابية وتشكيل الحكومات وانتخاب رؤساء الجمهورية، إلى المسائل المالية والإدارية والقضائية والتعيينات، هناك تكامل واضح بين الطرفين الشيعيين، يتكفل باعتماد خيارات موحّدة. ولأنّ القوى الطوائفية الأخرى كلها في وضعية التشرذم والضعف، فمن الحتمي أن يصبح المكوّن الشيعي هو الأقوى وصاحب القرار.
لذلك، يتمّ التداول في بعض الأوساط المسيحية غير الحزبية بضرورة إنتاج مبادرة مسيحية شاملة، وفي أسرع ما يمكن، تتبنّى خياراً رئاسياً موحّداً، وترعاها بكركي.
يقول أصحاب هذه الفكرة: إذا سمّت القوى المسيحية مرشحها للرئاسة، يصبح محتوما أن تتبنّاه القوى الطوائفية الأخرى، فيتمّ انتخابه حصراً دون سواه. وفي ذلك، يمكن للمكوّن المسيحي أن يتجاوز مأزق الفراغ الرئاسي لشهور أو حتى سنوات، ويتجنّب احتمال تسمية رئيس يزيد من حدّة الانقسامات داخل الصف المسيحي.
طبعاً، هذا الطرح ليس واقعياً، لأنّ اعتماد القوى المسيحية خياراً رئاسياً موحّداً يبدو أمراً مستحيلاً. والرهان على توحيد الموقف المسيحي في هذا الملف، كما في ملف الانتخابات النيابية، كان فاشلاً دائماً. ولذلك، ستبقى المواقع التي يشغلها المسيحيون في السلطة موضع استضعاف دائماً ولن يكون لهم القرار في شأنها.
إذا قرّرت القوى المسيحية أن تتوافق على شخصية الرئيس المقبل، فبالتأكيد، لن يكون مرشح الإجماع جبران باسيل أو سليمان فرنجية أو سمير جعجع. ولكن، من مصلحة الأقطاب الثلاثة أن يشاركوا في التسمية، فيأتي الرئيس ليعبّر عن التقاطع بينهم لا عن قطيعة. وأي رئيس يحظى بتوافق المسيحيين، سيكون رئيساً قوياً بالفعل.
ويقول أصحاب هذه الفكرة، إنّها الوحيدة التي تتكفل بانتخاب رئيس للجمهورية في أقرب وقت، وبأن يكون هذا الرئيس ممثلاً للإجماع المسيحي. وإلّا، فالأحرى بـ«ديوك المسيحيين» أن يوقفوا «النق» والشكوى من خسارة الدور المسيحي الفاعل داخل السلطة، ويستسلموا للقضاء والقدر.