منذ ولادة ما يسمّى بفريقي الثامن والرابع عشر من آذار، ووقوع لبنان في محطات عديدة بحالاتٍ من الشلل المؤسساتي والدستوري، خرجت عبارة «الوسطي»، لتتحوّل إلى بادرة حلّ حين يعجز أي طرف عن إيصال من يتبنّاه إلى الموقع الذي يعاني من شغور أو فراغ. حينذاك، أوصلت التسويات شخصيات كالرئيس ميشال سليمان إلى الرئاسة، والرئيس نجيب ميقاتي إلى رئاسة الحكومة. تجربتان يمكن وقوف الكتل وأصحاب القرار عندهما مليًا للتقييم والخروج بالفوائد والأضرار، ومقارنة ظروف المرحلة ومتطلّباتها اليوم مع ما كانت عليه حين تمّ التوافق على «وسطي» هنا أو هناك.
هذه القاعدة الأساسية ينطلق منها فريق الثامن من آذار وعلى رأسه «حزب الله»، الذي يقارب دومًا الاستحقاقات السياسية والدستورية انطلاقًا من مبدأ «حماية المقاومة»، أو كما يمكن أن نسمّيه «إبعاد مسألة السلاح عن الهجوم الداخلي داخل مؤسسات الدولة قدر الإمكان». وتبعًا لهذه الممارسة لدى الحزب، يمكن مراجعة محطات عديدة في السنوات الأخيرة، لم يسر الحزب فيها سوى بمن يعتقد أنّهم شخصيات «مضمونة»، لا يمكن لها أن تنقل الصراع في لبنان من صراع سياسي إلى صراع بين الدولة والحالة العسكرية القائمة للحزب.
عام 2016 جاهر الحزب بتبنّيه ترشيح الرئيس العماد ميشال عون، وتمكّن من استغلال كل الظروف الدستورية، بالشراكة مع حلفائه و«التيار الوطني الحر»، من أجل وصول عون إلى بعبدا. ورغم أنّ وقع تحالف التيار مع الحزب، أتى ثقيلًا على التيار نفسه نتيجة حسابات «حزب الله» التي تمنعه من الانخراط في مسألة مكافحة الفساد، أو على الأقل في دعم حليفه بشكل مطلق وعلني بمعركته في التدقيق الجنائي واستقلالية القضاء وسواها من خطوات مكافحة الفساد، إلّا أنّ الحزب كان ولا يزال يرى بالرئيس عون «ضمانةً وطنيةً» على صعيدي السلم الأهلي واحترام خيار «مقاومة العدو» الذي يقوم «حزب الله» وجوديًا عليه.
من هنا، لا يمكن للحزب اليوم أن يتراجع أي خطوة إلى الوراء في مسألة اختيار مرشحه للرئاسة، وكذلك لاحقًا، في أي خطوة واستحقاق مؤسساتي. الخطوة إلى الوراء تعني ببساطة أن يسير «حزب الله» بتسوية تقوم على مرشّح «وسطي»، يوافق عليه بعض الخارج مع بعض الداخل، وهو أمر مريب بالنسبة للحزب، كون اختيار الآخرين لأي اسم لن يحصل سوى بالحصول منه على ضمانات، وهذه الضمانات، في هذه الظروف اليوم، لا يمكن أن تُطلب سوى من منطلق مواجهة الحزب.
يؤمن الثامن من آذار، رغم تمايز أحزابه، أنّ معركة الخارج الأساسية اليوم هي مسألة السلاح، وأنّ مقاربة كل الملفات تتمّ في سبيل خدمة هذا الغرض، ومن هنا يصيب «حزب الله» في مقاربته الردعية لأي ملف.
في الوقت عينه، يعلم الجميع في لبنان أنّ مسألة تخطّي الرأي الأميركي في مقاربة الإستحقاقات الكبيرة هو أمر غير ممكن، ومن هنا تقوم الصعوبة بإيجاد شخصية يرضى بها الجميع بمن فيهم الأميركي!
وعليه، تؤكّد أجواء الثامن من آذار، أنّ مسألة الإتفاق على رئيس وسطي، سياسياً كان أم عسكرياً، لن تحصل في المدى المنظور، وأنّ التسوية لا بدّ لها أن تحصل يومًا ما على شخصية «مضمونة» يقبل بها الجميع. وهنا بات لزامًا الإنتباه إلى الفرق الجوهري بين «التسوية» وبين «الوسطية».
أمر آخر تشير إليه الأجواء، هو أنّ ظروف المنطقة ما بعد الترسيم ليست كما قبله. وإنّ تنازل الخارج عن عدد من الثوابت التي كانت قد أُعلنت على لسان عدد من المسؤولين الأميركيين بما فيهم الوسيط، يعني ببساطة أنّ الرهان على شخصيات مدعومة منهم بشكل مطلق هو أمر ليس بالمضمون لدى الفريق المواجه للحزب، وهنا قد تأتي الدعوات للذهاب نحو تسوية معقولة في الفترة المقبلة.
ولأنّ طيف «ويكيليكس» لم يغب بعد، وعلى غرار مسألة توزير شخصيات تدور في فلك الثامن من آذار، لا يمكن لـ»حزب الله» السير بأي شخصية للرئاسة سبق وأُثبت أنّها تملك لغتين في مقاربتها لمسألة «المقاومة»، واحدة تقولها في العلن وأخرى تقولها في السفارات.
قد لا يعلن «حزب الله» اسمًا اليوم، ولن يعلنه في القريب العاجل، كون الحزب لا يتبنّى شخصيةً دون أن يتيقّن من إمكانية وصولها الفعلي إلى الرئاسة. ولكن تقول الظروف المجتمعة، إنّ الفراغ سيكون طويلًا ريثما تتفق أكثريةٌ ما داخل المجلس على تسويةً توصل رئيسًا يُطمئن الحزب وحلفاءه من جهة، ويرضي الجانب الأميركي نوعًا ما من جهة أخرى. فالأميركي يعلم تمامًا، أنّه حتى في صفوف حلفاء الحزب سيجد من تنطبق عليه مواصفات المرحلة كما يراها هو.