لا يمكن لأيّ مراقب أن يتجاهل السيناريوهات التي تملأ الوقت الفاصل بين مسلسل جلسات الخميس الأسبوعية لدورية المخصصة لانتخاب الرئيس العتيد. وإن تمعّن البعض فيها، فهي تثير اكثر من علامة استغراب واستهجان نظراً الى رتابتها نتيجة محاولات استنساخ تسويات الماضي، واستحالة اخرى لمجرد انها بنيت على معطيات سوريالية. وعليه، ما الذي يقود الى هذه المعادلة غداة الجلسة السادسة في انتظار السابعة؟
قبل الدخول في معالجة مجموعة العروض الرئاسية والخيارات المتاحة المتبادلة بين المقار السياسية والحزبية لا بد من التوقف مليّاً امام شكل البعض منها ومضمونه. فإلى ما هو مطروح في المشاورات الداخلية هناك مَساع حثيثة يبذلها البعض لتسويق أخرى في الخارج سعياً إلى استدراجه للمساهمة في ادارة الأزمة المتعددة الوجوه. وكل ذلك يجري في ظل المعادلات السلبية التي كرّستها الجلسات الست السابقة نتيجة موازين القوى المتكافئة بعدما ارتفعت السواتر السياسية والحزبية بين القوى المؤثرة في الاستحقاق بما يحول دون إتمامه.
وقبل الدخول في مسلسل العروض المتبادلة ما بين الحلفاء وحلفاء الحلفاء والخصوم، لا بد من التوقف عند الصورة النمطية التي عبّرت عنها الجلسات وعكست الإصرار على المضي في اللعبة التقليدية بعيداً من الضمانات التي يمكن للكتل النيابية ان تتبادلها والتي تخضع لامتحانات يومية حول مدى تضامنها وقدرتها على المضي في خيارات فاشلة، وان لم تكن كذلك قد تكون مستحيلة او انتحارية، قياساً على قدرة البعض في اللعب على حد السكين بين خيارين متناقضين من دون احتساب المردود السلبي المحتمل على اكثر من صعيد وايّاً كانت الكلفة المقدرة على البلاد والعباد.
وقبل الحديث عما هو متوقع من خيارات محدودة باتت مطروحة على الطاولة في اكثر من مطبخ انتخابي، لا بد من الاشارة إلى المعادلة شبه الثابتة التي نضحت بها الجلسة السادسة امس الأول، والتي عبّرت بما انتهت اليه من مؤشرات وأرقام، بأنّ الإصرار على اعتماد الأوراق البيض ما زال سياسة ثابتة وخيارا قائما في المواجهة المفتوحة مع مجموعة نواب المعارضة ومرشحها، فيما يتلهى آخرون على هامش هذه المواجهة الثنائية بطرح الشعارات الغامضة وأسماء اخرى متفرقة سواء كانت من لائحة المرشحين الرئاسيين المُعلن عنهم، او من خارجها بهدف الزكزكة الداخلية من ضمن اهل البيت الواحد والكتل النيابية الهشّة او تلك المرشحة للاهتزاز في اي وقت بات رهناً باقتراب موعد الفصل بين مرحلة التلهي والجد متى اقتربت ساعة الحسم لإتمام المهمة التي كلّف بها المجلس النيابي وعجز عن إتمامها حتى الآن.
وانطلاقاً من هذه الوقائع، لا يتجاهل العارفون بكثير من مضمون الإتصالات الجارية حجم التردد الموجود في اتخاذ المواقف الصلبة في شأن الاستحقاق الرئاسي، وكأنّ البعض ممّن امتهنوا القيام بدور الوسطاء يتمهلون في طرح الخيارات الجدية والنهائية الحاسمة في انتظار شيء ما من الخارج ولا يزال كثير منهم ينتظره من دون الافصاح عن ماهيته وشكله ومضمونه. فالمواقف الدولية والحديث المتنامي عن وساطات خارجية ومبادرات فرنسية او سعودية او اميركية لم يثبت بعد جديته لمجرد أنه لم يتناول بعد تفاصيل الانتخابات الرئاسية بدليل انّ سفراء بعض هذه الدول قد انكفأوا عن حراكهم الداخلي لأسباب مختلفة.
ففي الوقت الذي تبلّغت فيه مراجع سياسية وديبلوماسية ان السفير السعودي وليد البخاري، الذي غادر بيروت عقب احتفالية الذكرى الثالثة والثلاثين لتوقيع «اتفاق الطائف»، لم يعد بعد الى اهتماماته اللبنانية. وقد ابتعدت معه عن الساحة الداخلية السفيرة الفرنسية آن غريو بعدما قصدت بلادها منذ اكثر من اسبوع لإجراء مشاورات مختلفة الأهداف لا تعني انتخاب الرئيس فحسب. ذلك ان هناك اهتمامات فرنسية تسبق هذا الاستحقاق وتعني حياة اللبنانيين في المجالات الانسانية والمعيشية. وقد تلاقت هذه الاجواء مع ما عادت به شخصية اممية من جولة خليجية عربية أجرتها بتكليف مباشر من دوائر نيويورك من أجواء اللامبالاة الخارجية تجاه ما يجري في لبنان. وقد حرصت هذه الشخصية في جولتها خلال الايام القليلة الماضية على وضع المسؤولين اللبنانيين في هذه الاجواء لِحضّهم على مبادرات ايجابية يمكن ان تكسر الحلقة المفرغة التي يدور فيها الاستحقاق الرئاسي في وقت يحتاج لبنان الى إكمال عقد مؤسساته وسلطاته لتنتظم الحياة الدستورية في البلاد.
وفي المعلومات المتداولة انّ الشخصية الاممية نصحت بشدة بضرورة اخراج البلاد سريعاً من مدار العجز المتمادي في إدارة المسؤولين للملفات الداخلية، وإنجاز ما هو مطلوب منهم على اكثر من مستوى وصعيد بعدما تجاوزت المناكفات السياسية المهل الدستورية لانتخاب الرئيس قبل نهاية ولاية سلفه، والتباطؤ في التعاطي مع مجموعة التفاهمات التي عقدت، سواء بالنسبة الى الترسيم البحري والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وتحضير القوانين المطلوبة والإجراءات التي تحمي ما تحقّق منها مَخافة ان تنهار دفعة واحدة بطريقة دراماتيكية تزيد من حال اللبنانيين صعوبة كما تبخرت الوعود بإنجازات وهمية واحدة بعد أخرى.
وقياساً على ما تقدّم، يبدو بعض التصرفات المحيطة بالاستحقاق الرئاسي مقدمة لخسارة الخيارات الداخلية المحيطة به، فالتلاعب بأسماء المرشحين وطرح الشروط التعجيزية للتوافق على اي شخصية يمكنها ان تجمع اكثرية اللبنانيين، ويتوافر فيها ما هو مطلوب لترميم علاقات لبنان المقطوعة مع الخليج العربي، والتي أصيبت بكثير من فقدان الثقة بالدول الغربية التي حصرت اهتماماتها بالشؤون الإنسانية والاجتماعية والطبية تارِكة الشأن الإداري والمؤسساتي في حال من الانهيار المتوقع في اي وقت نتيجة التشظّي الذي أصاب المؤسسات وما اصابها من شلل عميق أخرج كثيرا منها من الخدمة الفعلية.
وبناء على كل هذه المعطيات والمؤشرات التي لم تعد خافية على احد، هناك من يصرّ على القيام بما يؤدي الى مزيد من التأزم الداخلي بعروض فاشلة على قاعدة أنّ «من بعدي الطوفان» وبمنطق «عليّ وعلى اعدائي يارب»، أيّاً كان الثمن الذي سيدفعه لبنان من الآن وصاعداً. وكل ذلك يجري في موازاة من لا يزال يتلهّى في كل جلسة بأوراق بيض تحمل اسما خفيا لم يكتب بعد بالحبر الازرق وقد اقترب أوان استخدامه، وآخرون يتسلّون ببعض الاسماء المختارة بعناية من لائحة معلن عنها وأخرى مستترة لتغطية مواقف ملتبسة وعلى خلفيات انتقامية من هذا او ذاك، في انتظار اللحظة التي تستوي في طبخة الرئيس، والتي سيأكلها اللبنانيون ولو كانت سماً بالنسبة الى بعضهم فهم مُجبرون على تَجرّعه في انتظار ساعة الصفر التي ما تزال غامضة.