هل يجوز أن يفشل لبنان في إقرار الحد الأدنى من المطالب الإصلاحيّة التي شكّلت وتشكّل الممر الإلزامي الأوحد للإنقاذ والخروج من الحفرة التي وقعت فيها البلاد نتيجة الفساد المستشري وغياب آليّات المحاسبة والمساءلة وانكفاء السلطة القضائيّة عن القيام بدورها وهو دور مركزي لتحقيق أي تقدّم في الأوطان؟
ليس هناك قطاع واحد يمكن أن يُقال أن تقدّماً ما قد تحقق فيه، بل على العكس تماماً، التراجع يصيب كل المرافق والقطاعات والترهل بات سمة الإدارة العامة والمؤسسات الحكوميّة بعدما تآكلت رواتب الموظفين العموميين بفعل التدهور غير المسبوق لسعر العملة الوطنيّة.
قطاع الكهرباء هو أكثر الأمثلة سطوعاً. خسائر بمليارات الدولارات منذ عقود من دون أن تتوفر الطاقة الكهربائيّة ولو لساعاتٍ معدودة في اليوم وكل ذلك نتيجة سياسات التعنّت والنكد السياسي والبحث الدائم عن «الصلاحيّات» و»الحقوق» وسوى ذلك من الشعارات الشعبويّة الفارغة.
نعم، لم تُقارب الملفات الإقتصاديّة إلّا من منطلقات سياسيّة ووفق حسابات سياسيّة، لا علاقة بالضرورة للاقتصاد بها. المهم أن تتحقق الغايات السياسيّة الفئويّة والمصلحيّة لهذا الطرف أو ذاك. أمّا المصلحة الوطنيّة العليا، فقلما اكترث لها هؤلاء!
الأسوأ من كل ذلك هو تكريس الأعراف الجديدة مرّات من خلال المؤسسات الدستوريّة وتعطيلها ومرّات من خلال فرض معايير قد لا تكون صحيحة بالضرورة. من الأمثلة على ذلك، تمتّع المرشح الرئاسي بحيثيّات تمثيليّة وشعبيّة واسعة تخوّله خوض السباق والوصول إلى قصر بعبدا.
من قال إن هذا المعيار يتلاءم حتماً مع طبيعة التركيبة اللبنانيّة بتعقيداتها وتشابكاتها أو بتعدديتها وتنوّعها؟ ألم يسبق أن تولى رئاسة الحكومة، مثلاً، شخصيّات مرموقة لم تكن «الأقوى» في طائفتها؟ حتى رئاسة الجمهوريّة شهدت توليها من قبل شخصيّات مخضرمة إلا أنها لم تكن تترأس كتلاً نيابيّة، ولم تتولَ بذاتها منصباً برلمانيّاً.
بطبيعة الحال، إذا توفر الإجماع أو التوافق بالحد الأدنى على شخصيّة تمتلك هذه الحيثيّة، فلا مانع من ذلك؛ ولكن هل تتعطل الانتخابات الرئاسيّة لأشهر، لا بل لسنوات، لكي يتوفر التفاهم السياسي حول هكذا شخصيّة؟ وماذا لو لم يحصل هذا التقاطع السياسي؟ هل تبقى البلاد أسيرة الفراغ إلى ما لا نهاية؟
عمليّاً، هذا هو الوضع القائم في لبنان اليوم. ثمّة قوى سياسيّة تتلطى خلف شعارات وعناوين قد تكون برّاقة للبعض في شارع معيّن أو توجّه ما، إلا أنها عمليّاً تصب حصراً في خدمة ذاك الفريق في معاكسة تامة لمصلحة البلاد حيث لم يعد ممكناً القبول بتمادي بعض الأطراف في لعبة التأجيل والتعطيل المنهجي للدستور والمؤسسات والقانون.
الاشتراطات المتقابلة لا تولّد حلولاً ولا تصنع تسويات، كما أن توزيع «الفيتوات» على المرشحين المحتملين يميناً ويساراً لا يساعد البتّة على إنجاز الاستحقاق الرئاسي وملء الشغور في أسرع وقت ممكن.
المشكلة كانت وتبقى عند أركان محور الممانعة الذين لم يتفقوا على مرشحهم الرئاسي للتقدّم به إلى حلبة المنافسة، وهم يهربون من هذه الحقيقة من خلال الإقتراع بالورقة البيضاء وتطيير النصاب في الدورات الثانية للجلسات الانتخابيّة الرئاسيّة. ولكن المشكلة الأكبر أن هذا الفريق، إذا إتفق أركانه «يبلعون» البلد وإذا اختلفوا يعطلون البلد!
ما هذه الممارسة السياسيّة التي تفتقر إلى الأخلاق السياسيّة، ولو بحدودها الدنيا؟ أما آن أوان الإقلاع عن هذه السياسات التافهة التي تكبّد البلاد خسائر جمّة في الإقتصاد والمجتمع والبيئة والصحة وسوى ذلك من الملفات؟