Site icon IMLebanon

نحو تفكُّك متكامل في 2023

 

 

لم تعُد هناك حاجة إلى التخمين لاستطلاع ما سيُقبِل عليه لبنان في الأشهر المقبلة. كل عناصر الأزمة توحي بأنّ الآتي أعظم. ويقول بعض الخبراء: حتى لو طرأت بعض العناصر الإيجابية على المشهد، خلال العام الطالع، فستكون عابرة، ولن توقف الإنزلاق العنيف نحو الهاوية.

لا يبدو الرهان على المبادرات الخارجية في محله الصحيح، بما في ذلك الكلام على مبادرة فرنسية- قطرية لعقد اجتماع في باريس، يضمّ الأميركيين والسعوديين أيضاً، بهدف إخراج الملف الرئاسي من دائرة المراوحة.

 

لقد أظهر اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، أنّ لبنان أدّى دوره المطلوب تنفيذاً لصفقة أميركية- إيرانية محدّدة ومحدودة، وانتهى الأمر هناك. وأما الصفقة الكبرى التي يمكن أن يستفيد منها لبنان وسوريا والعراق واليمن فما زالت متعثرة. وليس واضحاً ما قد يصل إليه الحراك المستجدّ في عُمان. وفي أي حال، ليس مضموناً أن يؤدي أي اتفاق أميركي- إيراني إلى تحقيق انفراجات في لبنان والدول العربية التي تتمتع فيها طهران بالنفوذ.

 

ففي العام 2015، عندما وقّعت إدارة باراك أوباما اتفاق فيينا مع إيران حول ملفها النووي، كان لبنان في وضعية فراغ رئاسي أيضاً. وعلى رغم الاتفاق، استمرت هذه الوضعية حتى خريف 2016، عندما أوصل الإيرانيون رئيساً للجمهورية حليفاً لـ»حزب الله» هو العماد ميشال عون، ولم يقبلوا بالرئيس الوسطي أو التوافقي.

 

خبرة الإيرانيين بخصوصيات لبنان دفعتهم إلى التمسك بأن يكون رئيس الجمهورية «صافياً» لهم، في مقابل الموافقة على أن يكون رئيس الحكومة السنّي من 14 آذار (سعد الحريري)، لأنّه في هذه الحال يصبح الأضعف بين الحليفين القويين الشيعي والماروني.

 

ولاحقاً، عندما عجز الحريري عن «الصمود» في وجه سياسات «الحزب»، أصبح عبئاً أراد السعوديون إلقاءه عنهم، ولذلك شجّعوه على الاستقالة عام 2017، قبل أن تُسقطه انتفاضة 2019 بالضربة القاضية.

 

اليوم أيضاً، عادت النغمة إيّاها: فليكن رئيس الجمهورية حليفاً «صافياً» لـ»حزب الله»، ورئيس الحكومة أقرب إلى 14 آذار أو الوسط. وبالنسبة إلى «الحزب»، لا مشكلة في ذلك، ما دام المجلس النيابي ممسوكاً ورئاسة الجمهورية كذلك. وفي ظل تركيبة سياسية من هذا النوع داخل مؤسسات السلطة، يمكن التحكُّم بتركيبة الحكومة نفسها.

 

في هذه الحال، يحتفظ «الثنائي» بكامل الحصة الشيعية في أي حكومة كانت، وتكون لرئيس الجمهورية الحليف غالبية الحصة المسيحية، فيما يكون الوزراء السنّة موزعين بين رئيس الحكومة والصف المقابل. وحسابياً، هذا يمنح «الحزب» غالبية مضمونة في مجلس الوزراء، كما في زمن حكومات الحريري وحسّان دياب، واليوم في حكومة نجيب ميقاتي.

 

لذلك، يحاذر الأميركيون والسعوديون تكرار تجربة 2016، وما زالوا يرفضون أن يكون رئيس الجمهورية حليفاً «صافياً» لـ»حزب الله»، خصوصاً بعدما فشلت رهانات التغيير بالغالبية النيابية بعد الانتخابات الأخيرة. وفي المقابل، يصرّ «الحزب» على أولوية أن يحظى الرئيس بثقته بلا تغيير- طوال 6 سنوات- فـ»لا يطعن المقاومة في الظهر». وهذا الأمر له حساباته الدقيقة.

 

هذا «الكباش» الداخلي- الإقليمي- الدولي حول الرئاسة يجعل التوافق أمراً مؤجّلاً حتى إشعار آخر. وفي الخضم، قد تجد قوى خارجية أنّ الظرف الحالي، أي الفراغ الرئاسي والفوضى الدستورية والمشاحنات داخل فريق «حزب الله»، أفضل لها من انتخاب رئيس حليف لـ»الحزب» واستتباب الدولة والمؤسسات في يده، بحيث يشعر بمزيد من القوة والقدرة على المفاوضة والمناورة. وهذا السيناريو لا يخلو من المخاطر، لأنّه يعني البقاء في وضعية التعثر والتعطيل والانهيار إلى آجالٍ غير محدّدة.

 

بل إنّ الخوف يصبح أكبر عندما تتمّ مراجعة التوقعات المتداولة لدى العديد من المحللين والخبراء، وكلها تنبئ بانفلات البلد من ضوابطه، يوماً بعد يوم. وثمة مَن يخشى أن يجد بعض قوى الخارج مصلحة في وصول الدولة إلى وضعية أعمق من التفكّك، بحيث يصبح صعباً إحياؤها كما هي، ويكون لزاماً الانتظار عشرات السنين لإعادة النهوض، ولو وُجدت إرادةُ ذلك.

 

ويدعم هذا الاقتناع فقدان المخارج من المأزق المالي- النقدي- الاقتصادي، ما يرشّح لبنان ليقع في عداد الدول المصنّفة فاشلة، حيث تتوالى مشاريع النهوض شكلياً منذ 3 سنوات، وتتهرَّب القوى الممسكة بالسلطة من أي التزامٍ مع صندوق النقد الدولي، بما في ذلك الإجراءات الإنقاذية البديهية كقانون «الكابيتال كونترول» الذي كان ناجعاً في بداية الأزمة فتحوَّل اليوم مجرد مهزلة.

 

وملامح الخناق ظهرت مع إطلالات العام الجديد بمسرحيات التلاعب بسعر الدولار ولعبة تذويب الودائع وانهيار الرواتب والأجور، في مقابل دولرة كل أسعار الاستهلاك والخدمات، بما فيها الرسمية. وهذا ما يضع الناس في وضعية احتقان غير مسبوقة.

 

وبديهي أن يقود الاحتقان إلى انفجار اجتماعي يهزّ أركان السلطة. لكن الأسوأ هو أن يتهرّب هؤلاء من الاستحقاق، فيحوّلوا الانفجار طائفياً. وحينذاك، سيصعب ضبط التداعيات وتقدير العواقب. وربما هذا ما سيضطر بعض رعاة الحل، كفرنسا والفاتيكان، إلى التدخّل والقبول بأي تسوية ممكنة خوفاً من المغامرة بلبنان ككيان. فتفكُّك الدولة لم يعد مجرّد وَهمٍ أو هاجس.