تتابع دوائر غربية معنية تعامل لبنان مع سلسلة انتظارات محلية وإقليمية، أقلها انتظار نتائج الاتصالات السعودية – الإيرانية، وسط انشغال أوروبي وأميركي بملفات سياسية واقتصادية عالمية
من المبكر مقارنة عدد الجلسات التي عقدت حتى الآن لانتخاب رئيس للجمهورية مع عدد الجلسات الـ 45 التي سبقت انتخاب الرئيس ميشال عون في مرحلة الشغور الرئاسي. وفي انتظار دعوة الرئيس نبيه بري إلى جلسة جديدة، هي الرقم 11، يظهر الوضع اللبناني مزيداً من الانحلال على ضوء سلسلة أحداث حصلت أخيراً، وعلى وقع انتظار انكشاف مزيد من المخاطر المتوقعة. إذ لا يمكن مقارنة مرحلتي الشغور لا بالظروف الإقليمية ولا بالمحلية التي صارت تشكل قاعدة أساسية في النظر إلى الاستحقاق الرئاسي من خلالها.
حفلت مرحلة الشغور السابق بسلسلة محطات مهمة ليس أقلها سياسياً توافق التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية على اسم عون. لكن المخاض الأمني كان كبيراً جداً وسبق أي توافق، لا بل يُفهم الآن كيف ساهم في الوصول إليه. فعلى رغم شبه الاستقرار الأمني الذي طبع مرحلة امتدت من أيار 2014 إلى تشرين الأول 2016، إلا أن ثمة حدثاً أمنياً، على غرار حدث 7 أيار الذي سبق اتفاق الدوحة بعد الشغور الرئاسي، في ظل ما حملته أحداث عرسال وما سبقها ورافقها من أفخاخ أمنية وسياسية، عدّل موازين القوى الرئاسية وترك آثاره على الاستحقاق الذي انتهى بانتخاب عون. في موازاته استطاعت حكومة الرئيس تمام سلام تجاوز قطوعات كثيرة تتعلق بالخلافات الداخلية بين رئاسة الحكومة والتيار الوطني الحر، الذي ظل مشاكساً خلال سنتين ونصف سنة من دون أن يصل إلى ما وصل إليه اليوم، بحكم اختلاف الظروف وطبيعة حكومة تصريف الأعمال. والأمر الثالث اقتصادي يتعلق بالحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار النقدي رغم كل التحذيرات المالية التي سبقت الانهيار الكبير. سنتان ونصف سنة تمكن لبنان من تجاوز خضات أمنية وسياسية واقتصادية بالحد الأدنى، لا سيما في غياب استحقاقات أساسية يمكن أن تكون مهيأة لتوتير الوضع. وهي ليست حاله اليوم.
تقول معلومات فرنسية إن الاتصالات السعودية – الإيرانية لا تزال في بداياتها، وهي تشمل ملفات كثيرة ومن الطبيعي أن لبنان كان من ضمنها، لكن الجمود يسيطر حالياً على أي نتائج لهذه الاتصالات ومن المبكر الحديث عن ترتيبات سريعة، يمكن أن تصل في خواتيمها إلى ما يعالج الأزمة اللبنانية من رأس الهرم وحتى قاعدته. من هنا، تطرح تساؤلات حول كيفية تعاطي لبنان مع أزماته الكثيرة، تحت سقف انصراف العواصم الإقليمية والدولية إلى ملفات أكثر إلحاحاً، كما في كل تداعيات حرب أوكرانيا وملف أسعار النفط وصولاً إلى بدء الإعداد للمؤتمرات الحزبية في الصيف المقبل تمهيداً للانتخابات الأميركية. وهذا يضيف إرباكات على سياسة الإدارة الأميركية الحالية، تتأثر بها حكماً الساحات الإقليمية والدولية. فالولايات المتحدة لها أولويات حالياً تتعلق بأوكرانيا ومن ثم أسعار الطاقة في العالم، ومحاولتها التعاطي مع التطرف الإسرائيلي بعد حكومة بنيامين نتنياهو، وسوء العلاقة مع الخليج والسعودية. وأوروبا بدورها منشغلة بأوكرانيا وأزماتها الاقتصادية ومعالجة التزود بالغاز وصعود الحركات اليمينية. هذا كله يضع لبنان بالنسبة إلى العواصم التي عادة تعنى بالشأن اللبناني في مرتبة «التفصيل الصغير» في ملفات كبرى وشائكة.
لذا هناك محاولة استكشاف غربية حول كيفية «تأقلم» لبنان مع هذا المشهد الدولي معطوفاً عليه انفجار في ساحات إقليمية وخلط أوراق من تركيا إلى سوريا والعراق، فيما هو يواجه رزمة مواعيد ضاغطة، تبدأ بالانتخابات الرئاسية. وتعوّل دوائر غربية معنية بمتابعة ملف لبنان على أهمية الانتخابات ليس كاستحقاق دستوري طبيعي فحسب، إنما كمدخل إلى حل الأزمات السياسية بين المكونات اللبنانية، واستطراداً معالجة الأزمات الاقتصادية والمالية. لأن هناك جنوحاً إلى التخفيف من وقع الانتخابات الرئاسية على مستقبل النظام اللبناني وهذا وحده ملف حساس، في ظل التوترات التي يشهدها لبنان وخلفيتها أعمق من مجرد تنافس انتخابي، والانصراف بدلاً من ذلك إلى الكلام عن ملفات اقتصادية ومالية رغم أهميتها. وناهيك عن أن لبنان أمام مجموعة من المواعيد الإدارية والعسكرية والاقتصادية تحتاج إلى حلول جذرية، وتتعلق بتعيينات في مواقع أمنية حساسة، بدأت بوادرها الأولى تنعكس خلافات سياسية وتمهد لصفقات مستقبلية مع أي رئيس جديد، وصولاً إلى الاستحقاق الأكثر خطورة مالياً مع موعد انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان. ومن الواضح أن الكلام بدا مبكراً حول مستقبل الحاكمية تهيباً، وقد يكون «مفتعلاً» مما يحدثه انتهاء ولاية الحاكم رياض سلامة، من خضات مالية. لا سيما أن أي مشكلة إدارية بسيطة بدأت تنتج تشنجاً سياسياً وأمنياً وتضع القيادات الأمنية في مواجهة مستمرة مع القيادات السياسية أو تنسيق دائم لاستنباط حلول قانونية أو غير قانونية لمواجهة المستحيلات، فإن ذلك يبقى من خارج إطار النظام العام.
كل ذلك يعيد الكلام الغربي في الدوائر المعنية بملف لبنان إلى نقطة أساسية، انتخابات الرئاسة ليست تفصيلاً، لكن الملف اللبناني يكاد يصبح كذلك وسط انشغال العالم بأزماته الخاصة… والأدهى أنه يصبح كذلك لدى القوى السياسية اللبنانية.