قد تتعثّر عمليّات التّصويت في أيّ دولة في العالم وتتعثّر عمليّات تشكيل الحكومات في أيّ دولة في العالم وتتعطّل عمليّات التشكيل أشهراً كثيرة حدث هذا في بلجيكا وفي ألمانيا وفي إسرائيل وفي الكويت العربيّة أيضاً، فتنعقد عشرات الجلسات إلا أنّ النوّاب المنتخبين في هذه الدّول يمارسون الدّور الذي استأمنهم عليه النّاخبون من أجل مصلحة البلاد إلّا في بلادنا السعيدة!
آخر العمليّات الإنتخابيّة التي تسبّبت بالحسرة في قلوب اللبنانيّين كانت الجلسات الخمس عشرة التي خاض جولاتها مجلس النوّاب الأميركي، حتّى الأميركان تتعثّر عندهم الإنتخابات وأحياناً يضطرّون لإعادة الفرز يدويّاً في إحدى الولايات وتأخذ معهم هذه العمليّة أسابيع كثيرة من أجل صوت واحد فقط، بعد خمس عشرة جولة تصويت نجح الجمهوريّون في إيصال مرشح هذه الأغلبية كيفن مكارثي إلى رئاسة المجلس النيابي، فيما نحن في لبنان ما نزال عاجزين عن ترك المجلس في حالة انعقاد وأن ينشغل النوّاب بعقد جلسات متتالية كما ينصّ الدّستور إلى حين انتخاب رئيس للبلاد، لو كانوا سيجيئون لنا بسلطان العصر والأوان وحاكم للعالم لكانوا انتخبوه، ولكن الحرب بين الموارنة الطّامعين في الكرسي من جهة وتسلّط حزب الله بدعوى الميثاقيّة على الرئاسة الأولى منذ العام 2005 مع أنّه الفريق الوحيد في لبنان الذي يخالف هذه الميثاقيّة ويشذّ عنها ويأخذ لبنان رهينة لأجندات خارجيّة مرتهنة لإيران من لبنان إلى آخر شبر أرض لإيران مصلحة في خرابه!!
ما كان لهذا الواقع أن يظلّ قائماً لولا القطعان اللبنانيّة التي يسير كلّ قطيع منها خلف كرّازه، قطعان الطوائف اللبنانيّة كحال “خرفان بانورج”Mouton de ) Panurge ) التي رواها فرانسوا رابليه (François Rabelais) الكاتب والطّبيب والرّاهب وعالم اليونانية وأحد إنسانيّي النهضة وأحد أعظم الكتاب على مستوى العالم، “بانورج” رجل كان في رحلة بحرية، وصادف أن كان معه على نفس السفينة تاجر أغنام يدعى “دندونو” (Dindenault) معه قطيع من الخرفان بغرض بيعها.كان “دندونو” تاجراً جشعاً لا يعرف معنى الرحمة، حتى أن رابلي نفسه وصفه بأنه يمثل أسوأ ما في هذا العصر من غياب للإنسانية، فحصل أن وقع شجار على سطح السفينة بين “بانورج”، صاحب القصة، والتاجر “دندونو”، صمم “بانورج” على أثر تلك المشاجرة أن ينتقم من ذلك الجشع. رسم “بانورج” لذلك خطة جهنمية، فقد قرّر شراء أحد الخرفان من التاجر بسعر عال وسط سعادة “دندونو” بالصفقة الرابحة، ولكن، وفي مشهد غريب، أمسك “بانورج” بخروفه من قرنيه وجرّه بقوة إلى طرف السفينة، ثم قام بإلقائه إلى البحر، وفي تصرف كان قد توقعه “بانورج” من الخرفان، رمى أحدهم بنفسه من سطح السفينة تابعاً خطى الخروف الغريق ليلقى نفس مصيره، ثم ليلحق به الثاني فالثالث فالرابع وسط ذهول التاجر وصدمته، وفي تصرف صادم اصطفت الخرفان الباقية في طابور مهيب لتلقي بنفسها إلى التهلكة، غير واعية للمصير المهلك الذي ينتظرها. جن جنون تاجر الأغنام “دندونو”، فقد فشلت كل محاولاته في منع القطيع من القفز إلى الماء، فقد كان القطيع يتصرف حسب غريزة لا يمكن مقاومتها، ولا منعها، وبدافع قوي من الجشع اندفع “دندونو” محاولاً الإمساك بآخر الخرفان الأحياء أملاً في إنقاذه من مصيره المحتوم، إلا أن الخروف كان مصراً على الانسياق وراء قطيعه، فكان أن سقطت جميعاً في الماء لتموت معاً غرقى.
هكذا نحن، كلّ قطيع يركض خلف زعيم حتى لو كان يلقي بنا بالبلد نحو هاوية لن تقوم لنا منها قائمة وكلّ واحد يختبىء خلف عنوان يدّعي أنّ فيه مصلحة لبنان ومصلحة شعبه!