تقليدياً كانت الانتخابات الرئاسية في لبنان تمرّ ضمن عاملين خارجيين يتجاذبانها لأسباب تتصل بوضع المنطقة، خصوصاً النزاع العربي ـ الاسرائيلي، ومن بعدها خصوصاً بعد «اتفاق الطائف»، كان الرئيس يخضع لتجاذب سوري ـ اميركي، على ان لا يكون للاعتبار الداخلي أي تأثير في المسار الانتخابي الاّ من الناحية الشكلية. ولكن اليوم للمفارقة، انّ الاستحقاق الرئاسي تتحكّم به عوامل داخلية وليست خارجية في المطلق، رغم وجود بعض التباين بين المملكة العربية السعودية وبقية الاطراف الخارجية المؤثرة في اللعبة اللبنانية. الّا انّ هذا الخارج يعطي فرصة للبنانيين لكي يتفقوا، من دون أي اشارات او تعليمات مسبقة، وذلك ضمن مهلة محدّدة وليست مفتوحة، كون انّه إذا تُرك الأمر للبنانيين فلن يتمّ انتخاب رئيس، وستبقى المؤسسات الدستورية معطّلة، ما يذهب بلبنان إلى الفوضى التي سيتمّ تصديرها الى الخارج وخصوصاً الى البلدان الاوروبية.
واقع الاستحقاق الرئاسي اليوم كما يراه المعنيون به والمتتبعون، هو على النحو الآتي:
اولاً- انّ فريق 8 آذار يدعم ترشيح رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية في اعتباره مرشحاً توافقياً، نظراً لاعتبارات ومعطيات ملموسة لدى الجميع، تتجسّد بعدم الممانعة الخارجية والمقبولية الوطنية والشرعية التاريخية المسيحية.
ثانياً- انّ اركان الفريق الذي يُشكّل 14 آذار تاريخياً ويلتف حول ترشيح النائب ميشال معوض حالياً كجسر عبور للذهاب إلى مرشح يشبه إلى حدّ بعيد الرئيس ميشال سليمان، كونهم يدركون انّهم غير قادرين على إيصال احد منهم. والإعتبار الآخر يتمثل بعدم جدّية المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الاميركية في دعمهم. إذ تبين لواشنطن والرياض انّ مشروع فريق 14 آذار لن يُكتب له النجاح.
ثالثاً- انّ الاميركيين والسعوديين والفرنسيين يفضّلون انتخاب رئيس على شاكلة الرئيس ميشال سليمان بنسخة 2008 وليس بنسخة 2011، اي الرئيس الذي يمكنه ان يتكلّم مع «حزب الله» وفريق «الممانعة» عموماً، إلّا انّهم لا يمانعون وصول رئيس حليف لـ»حزب الله» ولكنه لا يشبه الرئيس ميشال عون.
رابعاً- انّ الدول الغربية ومعها المملكة العربية السعودية، لا تزال تترك الابواب مفتوحة امام ترشيح فرنجية لاعتبارات تتصل بإرضاء «حزب الله» وحلفائه، لما يتمتعون به من نفوذ في لبنان والمنطقة. كما تعتبر هذه الدول انّ فرنجية يتمتع بصفات اضافية تتلخص بندية علاقته بحلفائه المبنية على الثقة التامة وايمانه بالحوار وتفهمّه للمصالح الاستراتيجية الغربية والعربية في لبنان، مع تفهمها التام لنظريته المبنية على انّ سلاح «حزب الله» هو مسألة دولية لا تسمح بزج اللبنانيين في أتون اي مشروع يُراد به نزع سلاح عبر حرب اهلية.
خامساً- لا يزال الغرب بعيداً من مقاربة الاستحقاق الرئاسي عن حلفائه في الداخل، وهذا ما يشكّل مفارقة كبيرة، إذ انّ هؤلاء الحلفاء يسعون لاستدراج حلفائهم الخارجيين إلى مواقف متشدّدة في هذا الاستحقاق. إلّا انّ الدول المعنية غير آبهة بهذا المنطق لاعتبارات تتصل بما اختبرته في السابق من فشل ذريع ارتكبه حلفاؤها، وهذا ما صرّح بعض المسؤولين الاميركيين والسعوديين في السابق، من انّهم أنفقوا اموالاً طائلة من اجل تقويض «حزب الله» وتشويه صورته، ولكنهم لم يفلحوا في ذلك.
سادساً- على عكس ما كان يُسمع ويُقال في السنوات الست الماضية من انّ الولايات المتحدة الاميركية تدعم ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون، تبين انّ هذا الكلام غير صحيح، إذ تشي بعض المعطيات بخلاف كبير بين الجانبين، وانّ السفيرة الاميركية في بيروت دوروثي شيا ليست بعيدة عن هذا الخلاف، علماً انّ عدداً من المصادر في الادارة الاميركية والكونغرس الاميركي تسرّب ما مفاده انّها تريد رئيساً يحاور «حزب الله».
سابعاً- انّ «حزب الله» يمّر في معضلة مشكلته مع «التيار الوطني الحر»، وهو ما بات واضحاً انّه مستعد لفك التحالف اذا ما اراد رئيس «التيار» النائب جبران باسيل هذا الامر، وهو يشعر بأنّه قادر على تعويض ذلك بمزيد من الانفتاح والحوار مع كافة المكونات اللبنانية، ولا سيما منها المسيحية، إذ انّه قد تبين انّ باسيل كان سبباً اساسياً في مشكلات «الحزب» مع بقية الاطراف. اما لجهة الاستحقاق الرئاسي، فإنّ «حزب الله» يتشدّد في المعايير التي وضعها لشخص الرئيس العتيد، ولا يساوم عليها نظراً لأسباب تتصل بالضغوط الدائمة والمستمرة التي يتعرّض لها، خصوصاً انّ ما من منصب شيعي أساسي فعّال في السلطة التنفيذية يمكنه حماية المقاومة، خصوصاً انّه لا يدفع أبداً في اتجاه اي تعديل دستوري ايماناً منه بـ»اتفاق الطائف» كدستور يجمع عليه اللبنانيون جميعاً.
ثامناً- يسعى «التيار الوطني الحر» للعودة الى التحالف مع «حزب الله» ضمن شرط واحد هو استبعاد فرنجية عن الترشيح لرئاسة الجمهورية، لأنّه (أي التيار) يعتبر انّ ما من مستقبل له خارج «تفاهم مار مخايل»، ولكن هذا الامر يبقى صعب التحقيق لأنّ العودة الى التفاهم وتفعيله لا تكون الّا عبر المعايير التي وضعها الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله لشخص رئيس الجمهورية العتيد.
وإزاء كل ما تقدّم، يبقى من المؤكّد انّ الجميع في الداخل بلا استثناء يعرقلون انتخاب رئيس الجمهورية، وانّ رفض فكرة الحوار هو السبب الأساسي للعرقلة، لأنّ هذا الحوار يأتي متكاملاً مع المسار الديموقراطي للانتخاب، حيث الدستور قد اعطى الحق للنواب بالتغيّب عن جلسات الانتخاب وكرّس نصاب الثلثين لانتخاب الرئيس، وأي كلام عن نصاب آخر هو تهور في غير محله.