IMLebanon

مهما بلغ التصعيد… التسوية حتميّة

 

رئيس الجمهورية سينتخب عاجلاً او آجلاً، تمهّد له تسوية لا مفر منها في نهاية المطاف، سواء تمّت صياغتها على البارد او على الساخن.

قد يعتقد البعض أنّ ديوك التعطيل المتموضعين في محميّاتهم، والمتحصّنين خلف متاريس القدح والذمّ، والمتراشقين على مدار الساعة بالشّروط والمواصفات والمعايير التي ينبغي ان تتوفّر بالرئيس الجديد للجمهورية، قد حسموا خياراتهم بالثبات النهائي في مواقعهم، وعلى مواقفهم.

 

 

كلام هؤلاء يشبه «الحكي الصحيح»، والبعض من مكوّنات الصراخ السياسي الدائر على ضفاف الملف الرئاسي، لنعترف انّه يجيد التمثيل ويتفنّن في أداء الدّور المطلوب أن يؤديه بكلّ ما يتطلّبه من افتعال للجديّة والعبوس، ومن حدّة في الخطاب، ومن حرفية لا نظير لها في نفخ عروق رقبته الى حدّ تبدو انّها توشك أن «تطق». ولنعترف ايضاً انّ البعض من الجمهور المسيّر قد يتأثر ويصدق، لكنّ ذاكرة اللبنانيين ليست مثقوبة، بل تشهد انّ هذه المكونات مجرّبة، وهي نفسها تتموضَع حالياً، في المكان المرسوم لها، وتؤدّي ذات الدور، الذي درجت على تأديته حتّى بذات المفردات، على مدى سنين طويلة على المسرح الرئاسي.

 

وربطاً بتاريخ مكوّنات الصراع الحالي، لن يكون مستغرباً أبداً إن شهد اللبنانيون انقلاباً في الصورة في أي لحظة، ومع أي مُستجد قد يطرأ، تُمحى فيه التموضعات والاصطفافات الحالية بكبسة زر، ويلحس المتصارعون كلّ شعاراتهم وشروطهم ومواصفاتهم ومعاييرهم، وحتى مبادئهم، ويصطفّون طابوراً متراصّاً خلف بعضهم البعض ليحلفوا يمين الطاعة للتسوية الرئاسية التي لا بد انها ستنسج ولو بعد حين.

 

ليس في هذا الكلام أي افتراء على تلك المكونات، او اتهام لها، او إلباسها ثوباً غير ثوبها، او انتقاص من قدر او موقع او حجم او فعالية وحضور ايّ منها، بل هو كلام مأخوذ من دفاترها التي اذا ما فلفَشناها، تتبدّى أمامنا محطات بعضها أكثر حِدة ودموية من محطة الاشتباك الحالي، كان آخر الدواء فيها الانصياع الى تسوية، ونذكر البعض منها:

 

 

– بعد انتهاء ولاية الرئيس امين الجميّل في ايلول من العام 1988، شغر موقع رئاسة الجمهورية لسنة وشهرين تقريباً، وكانت واحدة من الفترات الأكثر دموية وتدميراً التي مرّت على لبنان، وحسم الأمر بأن أخلى الأضداد متاريسهم، وبعضهم طرفٌ في محطة الاشتباك الحالي، وهرعوا جميعهم الى تسوية الطائف.

 

– وبعد انتهاء ولاية الرئيس اميل لحود في تشرين الثاني من العام 2007، شغر موقع الرئاسة لنحو سبعة اشهر، وحسمت هذا الفراغ، تسوية برعاية خارجية فرضتها احداث 7 ايار 2008. وانخرطت فيها كل المكونات السياسية المتصارعة حالياً، وجاءت بميشال سليمان الى رئاسة الجمهورية.

 

– وبعد انتهاء ولاية ميشال سليمان، دخلت رئاسة الجمهورية في شغور هو الأطول في تاريخ لبنان، لِما يزيد عن سنتين ونصف، وانتهت الى تسوية صاغها الاضداد أنفسهم، وبارَكها الخارج وربّعت العماد ميشال عون على عرش الرئاسة. وأبطالها الأساسيّون «حزب الله» و»القوات اللبنانية» اللذان يمترسان في مواجهة بعضهما البعض على الجبهة الرئاسية… وسعد الحريري الذي رَسّم حدوده خارج السياسة في هذه المرحلة.

 

 

هذا هو واقع الحال اللبناني مع مكوّنات مهما كزّت أسنانها على بعضها البعض، ومهما ضَخّت من سموم وتسخين وتوتير وتجييش في الارجاء اللبنانية، تبقى محكومة بالدخول في تسوية. أكان ذلك طوعاً او بالاكراه.

 

هنا ينبري السؤال التالي: طالما انّ الأمر كذلك، وطالما ان هذه الحقيقة يصرّح بها في المجالس الضيقة، وطالما ان الكل مقتنع بأن الانسداد القائم على الخط الرئاسي لا يمكن ان يفتح الا بتسوية، وطالما ان الجميع يعترفون بأن ليس من بين اطراف الاشتباك الحالي مَن هو قادر على التحكّم بالبوصلة الرئاسيّة وتوجيه إبرتها في الاتجاه الذي يخدم مصلحته وحده ويحقق رغباته وطموحاته ومغامراته، وطالما ان الجميع ايضاً، ومن دون استثناء، يؤكدون سراً وعلناً ان لا سبيل الى انتخاب رئيس للجمهورية، ومهما طال الانتظار الا بالتوافق، فلماذا كل هذا التعب؟ ولماذا إهدار الوقت، طالما ان نهاية فيلم الرعب الذي يعيشه اللبنانيون معلومة سلفاً؟ ولماذا لا تختصر الطريق وتُصاغ تسوية عاجلة، طالما ان هذه التسوية العاجلة الممكنة حالياً بأقل الأضرار الممكنة، هي نفسها التسوية المتأخرة التي ستصاغ حتماً في أي وقت لاحق؛ بعد اسبوع او شهر او سنة او سنوات، بفارق جوهري أكيد هو أن الاضرار ستكون أكبر وأوسع وأعمّ، وكلفتها أغلى من ان تحتمل؟

 

من الغباء الافتراض انّ البلد يمكن ان يحتمل فترة طويلة من الانتظار، وتراكم الخسارات والاهتراء في كل مفاصله، ومن المُعاناة الرهيبة التي أسقطته فيها هجرة الادمغة السياسية وإخلاء الساحة لمراهقات وصبيانيات عابثة تقود البلد الى انفجار داخلي اجتماعي وغير اجتماعي، فهل المطلوب رئيس جمهورية للانقاذ أم رئيس لجمهورية تحت الانقاض؟

 

 

قد يسأل البعض: هل يمكن ان تُصاغ تسوية في الجو القائم، وأي رئيس سينتج عنها؟

 

كل طرف «مْعَلّي فَرشتو» حالياً؛ التغييريون بين مكبّرات الصوت، حالة عددية مبعثرة، باهتة الدور والحضور، معدومة الفعالية، تقيم على هامش القضايا والاستحقاقات الكبرى، تبحث بالسراج والفتيلة عن مرشح جدي تجتمع عليه، ليؤهلها لأن يحسب حسابها في أيّ تسوية لاحقة، فلا تجده.

 

وجبران باسيل خاصَم كل الجيران، لا يريد رئاسة الجمهورية الا لنفسه، او لرئيس يصنعه هو، لاستكمال «عهد ما خلّونا». قراره كما هو واضح ان يقطع الطريق على اي تسوية تأتي بسليمان فرنجية او العماد جوزف عون الى رئاسة الجمهورية، فقلقه كبير جداً مما بعد الانتخاب، حيث انّ ما بعد الانتخاب بالنسبة اليه، ضعفاً وتراجعاً، غير ما قبله من قوة ونفوذ وتَحكّم بالقرار. وفي هذه الحالة ليس من سبيل امامه سوى الهجوم والتصعيد. قال له حليفه: «انت عين وسليمان فرنجية عين، وكما تعرف لا حظ لك، فلنجلس ونتفاهم». فشيطَن فرنجية، وصبّ جام غضبه على قائد الجيش، وقامَ بقصف عشوائي في كل الاتجاهات، وعلى نحوٍ لم يترك صاحباً له، حتى حليفه بدأ يحزم حقائبه للرحيل عنه.

 

 

سمير جعجع، لا يرى في موقع رئاسة الجمهورية سوى رئيس سيادي، ابتهج يوماً بما اعتبرها كتلته النيابية الأكبر، افترض انها قابلة للصرف في بنك الحظ الرئاسي، ولأنّ المواصفات السيادية تنطبق عليه، أوشَك في لحظة أن يبق البحصة ويترشّح شخصياً، لكنّه عاد وتراجع وسلّم بأنّ بنك الحظ مقفل، وطريقه إلى رئاسة الجمهورية مقطوع. وقعَ في إرباك وحيرة في من يرشّح، سَمّى قائد الجيش اولاً، وما لبث ان تراجع. تسلّى بترشيح ميشال معوض، وفشل في توحيد قوى المعارضة حوله، وانتقل الحديث الى خيار بديل، تقلقه فعلاً اي تسوية لمصلحة من يعتبره مرشّح الممانعة، فالاخبار الآتية من الشرق والغرب لا تسرّ القلب، ولذلك قرّر التموضع في منصة الاعتراض، وينتظر، لعل ريحاً تهبّ من مكان ما تقلب الميزان، وتُسيّر السفينة الرئاسية وفق ما يشتهي.

 

في هذا الجانب تخبّط واضح، حيث لا مرشح جديا مطروحا بالاسم او بالافتراض، فيما الأمر مختلف في الجانب الآخر؛ كتلة عدديّة وازنة تبدأ من ثنائي حركة «أمل» و»حزب الله» وتمتدّ على سائر الحلفاء، مُتراصّة جميعها خلف مرشح معلن اسمه سليمان فرنجية. ما يعني انّ فرنجية هو الاقوى من بين المرشّحين، ونقطة الضعف الجوهرية تتجلى في انعدام القدرة على تأمين نصاب انعقاد الجلسة الانتخابية، وأكثرية الانتخاب.

 

واضح ممّا تقدّم، أنّ التسوية صعبة لكنّها ليست مستحيلة. وفي النادي مرشحان: فرنجية الاقوى محلياً، وقائد الجيش الاقوى حضورا دوليا وإقليميا، لكنّ نقطة ضعفه الاساسية انه لا يملك الارضية النيابية المحلية، فضلاً عن ان طريقه الى الرئاسة محكوم بتوقّف إلزامي في محطة الدستور، وهي محطة لا يبدو أنّ في الإمكان عبورها، لعدم القدرة على تعديل الدستور، وكذلك لعدم توفّر الرغبة الجدية لدى أطراف سياسية أساسية في هذا التعديل.

 

على انّ اهم ما في هذا الجانب، هو التبدّل في نبرة بعض السفراء الغربيين، حيث تدرّجت من القول بانتخاب رئيس للجمهورية بمواصفات تنطبق على قائد الجيش حصراً، الى القول قبل ايام قليلة أعقَبت الاجتماع الخماسي في باريس، إنّ وضع لبنان بات مخيفاً للغاية، والوقائع فيه تتحرك على نحوٍ يتهدّد أمنه واستقراره، وبالتالي بات من الضروري والمُلحّ وصول اللبنانيين الى تسوية فيما بينهم، تمكّنهم من انتخاب رئيس للجمهورية، أيّاً كان هذا الرئيس.

 

يبقى السؤال هنا: كيف ستتم هذه التسوية؟

الجواب مرهون بوقائع وتطورات الآتي من الأيام التي لا يستطيع احد ان يقدّر ما اذا كانت ساخنة او باردة.